دراسات في المكاسب المحرمة المجلد 3

اشارة

سرشناسه : منتظری، حسینعلی، - 1301

عنوان و نام پديدآور : دراسات فی المکاسب المحرمه [شیخ انصاری]/ لمولفه حسینعلی المنتظری

مشخصات نشر : قم: نشر تفکر، 1415ق. = - 1373.

شابک : 7000ریال(ج.1) ؛ 7000ریال(ج.1)

يادداشت : جلد سوم این کتاب توسط انتشارات سرایی: 1380 منتشر شده است

يادداشت : ج. 2 (چاپ اول: مکتب آیت الله العظمی المنتظری، 1417ق. = 1375)؛ 9000 ریال

يادداشت : ج. 2، 1381، 28000 ریال

يادداشت : 1423 = 1381

یادداشت : کتابنامه

عنوان دیگر : المکاسب. شرح

موضوع : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب -- نقد و تفسیر

موضوع : معاملات (فقه)

شناسه افزوده : انصاری، مرتضی بن محمدامین، 1281 - 1214ق. المکاسب. شرح

رده بندی کنگره : BP190/1/الف 8م 70218 1373

رده بندی دیویی : 297/372

شماره کتابشناسی ملی : م 73-2362

[تتمة أنواع الاكتساب المحرّم]

[تتمة النوع الرابع و هو الاكتساب بما هو حرام في نفسه]

اشارة

______________________________

بسْم اللهِ الرَّحْمٰن الرَّحيم

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على خير خلقه محمّد و آله الطاهرين، و لعنة اللّه على اعدائهم أجمعين.

[المسألة الخامسة: التطفيف و البخس]

اشارة

المسألة الخامسة: التطفيف حرام، ذكره في القواعد في المكاسب (1) و لعلّه استطراد، أو المراد اتّخاذه كسبا بأن ينصب نفسه كيّالا أو وزّانا فيطفّف للبائع. و كيف كان فلا إشكال في حرمته.

المسألة الخامسة: التطفيف و البخس

(1) قال العلّامة في القواعد في عداد المكاسب المحرّمة: «و التطفيف حرام في الكيل و الوزن.» «1»

و حيث إنّ البحث في المكاسب و المشاغل المحرّمة فذكر التطفيف إمّا بنحو الاستطراد، أو المراد صورة اتّخاذه كسبا و شغلا رسميّا كما في المتن. و كيف كان فالمناسب ذكر بعض كلمات أهل اللغة:

______________________________

(1) القواعد للعلّامة 1/ 121؛ جامع المقاصد 4/ 35.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 8

[بعض كلمات أهل اللغة]

______________________________

1- قال الراغب في المفردات: «الطفيف: الشي ء النزر، و منه الطفافة لما لا يعتدّ به. و طفّف الكيل: قلّل نصيب المكيل له في إيفائه و استيفائه.» «1»

2- و فيه أيضا: «البخس: نقص الشي ء على سبيل الظلم ... و البخس و الباخس: الشي ء الطفيف الناقص.» «2»

3- و في الصحاح: «الطفيف: القليل ... و التطفيف: نقص المكيال.» «3»

4- و فيه أيضا: «البخس: الناقص يقال: شروه بثمن بخس. و قد بخسه حقّه يبخسه: إذا نقصه.» «4»

5- و في لسان العرب: «الجوهرى: الطفاف و الطفافة بالضمّ: ما فوق المكيال ... و قيل: طفاف الإناء: أعلاه. و التطفيف: أن يؤخذ أعلاه و لا يتمّ كيله ... و التطفيف في المكيال: أن يقرب الإناء من الامتلاء. يقال: هذا طفّ المكيال و- طفافه و طفافه ... و طفّف على الرجل: إذا أعطاه أقلّ ممّا أخذ منه. و التطفيف: البخس في الكيل و الوزن و نقص المكيال، و هو أن لا تملأه إلى إصباره ...

فأمّا قوله- تعالى-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ. فقيل: التطفيف: نقص يخون

به صاحبه في كيل أو وزن. و قد يكون النقص ليرجع إلى مقدار الحقّ فلا يسمّى تطفيفا، و لا يسمّى بالشي ء اليسير مطفّفا على إطلاق الصفة حتّى يصير إلى حال يتفاحش.

______________________________

(1) مفردات الراغب/ 314 (ط. أخرى/ 521).

(2) نفس المصدر/ 35 (ط. أخرى/ 110).

(3) الصحاح 4/ 1395.

(4) نفس المصدر 3/ 907.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 9

..........

______________________________

قال أبو إسحاق: المطفّفون: الذين ينقصون المكيال و الميزان. قال: و إنما قيل للفاعل: مطفّف، لأنّه لا يكاد يسرق في المكيال و الميزان إلّا الشي ء الخفيف الطفيف. و إنّما أخذ من طفّ الشي ء و هو جانبه ...» «1»

6- و فيه أيضا: «البخس: النقص، بخسه يبخسه بخسا: إذا نقصه.» «2»

أقول: إن كان لفظ التطفيف مأخوذا من الطفيف بمعنى القليل كان معناه جعل الشي ء قليلا أو أخذ القليل منه مطلقا، و إنّما استعمل في نقص المكيال أو الميزان من جهة كونهما أظهر المصاديق و أشيعها، و على هذا فيشمل اللفظ النقص بالعدّ و الذرع و نحوهما أيضا. و كذا إن فسّر بالإعطاء أقلّ ممّا أخذ، أو أخذ من الطفّ بمعنى الجانب، إذ يراد به حينئذ: الأخذ من طرف الشي ء أيّ شي ء كان. و إمّا إن أخذ من طفاف الإناء بمعنى أعلاه فالمراد به الأخذ من أعلى الكيل فيكون إطلاقه على غيره بنحو من التوسعة و المسامحة.

و كيف كان فملاك الحرمة موجود في الجميع قطعا كما هو واضح. مضافا إلى أنّ لفظ البخس يشمل الجميع و هو بنفسه منهي عنه في الكتاب و السنّة كما سيأتي.

و أمّا ما في اللسان من أنّه لا يسمّى بالشي ء اليسير مطفّفا حتى يصير إلى حال يتفاحش فلا دليل عليه، بل يردّه ما حكاه عن أبي إسحاق

كما لا يخفى.

7- و في تفسير سورة المطفّفين من التبيان: «المطفّف: المقلّل حقّ صاحبه بنقصانه عن الحقّ في كيل أو وزن. و الطفيف: النزر القليل. و هو مأخوذ من طفّ الشي ء و هو جانبه. و التطفيف: التنقيص على وجه الخيانة في الكيل أو

______________________________

(1) لسان العرب 9/ 221 و 222.

(2) نفس المصدر 6/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 10

[أدلّة حرمة التطفيف]
اشارة

و يدلّ عليه الأدلّة الأربعة. (1) ثمّ إنّ البخس في العدّ و الذرع يلحق به حكما و إن خرج عن موضوعه.

______________________________

الوزن.» «1» هذا.

و المذكور في أدلّة المسألة من الآيات و الروايات عناوين التطفيف و البخس و النقص و الإخسار و نحو ذلك كما يأتي.

أدلّة حرمة التطفيف

[من الكتاب آيات]

(1) فمن الكتاب العزيز آيات كثيرة:

1- قوله- تعالى- في سورة المطفّفين: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ* الَّذِينَ إِذَا اكْتٰالُوا عَلَى النّٰاسِ يَسْتَوْفُونَ* وَ إِذٰا كٰالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ* أَ لٰا يَظُنُّ أُولٰئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ* لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. «2»

2- و في سورة الرحمن: ... وَ وَضَعَ الْمِيزٰانَ* أَلّٰا تَطْغَوْا فِي الْمِيزٰانِ* وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تُخْسِرُوا الْمِيزٰانَ. «3»

3- و في سورة الشعراء- نقلا عن شعيب النبيّ عليه السّلام: أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لٰا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ* وَ زِنُوا بِالْقِسْطٰاسِ الْمُسْتَقِيمِ* وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ «4»

4- و في سورة هود- نقلا عن شعيب عليه السّلام-: وَ لٰا تَنْقُصُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ إِنِّي أَرٰاكُمْ بِخَيْرٍ ... وَ يٰا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيٰالَ وَ الْمِيزٰانَ بِالْقِسْطِ وَ لٰا تَبْخَسُوا النّٰاسَ

______________________________

(1) التبيان 10/ 295.

(2) سورة المطفّفين (83)، الآيات 1- 5.

(3) سورة الرحمن (55)، الآيات 7- 9.

(4) سورة الشعراء (26)، الآيات 181- 183.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 11

..........

______________________________

أَشْيٰاءَهُمْ وَ لٰا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ.* «1» إلى غير ذلك من الآيات الكريمة.

و من السنّة أخبار كثيرة

غاية الكثرة تبلغ حدّ التواتر إجمالا نذكر بعضها:

1- خبر محمّد بن سالم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ اللّه لمّا أذن لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخروج من مكّة إلى المدينة أنزل عليه الحدود ... و أنزل في الكيل: «وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ» و لم يجعل الويل لأحد حتّى يسمّيه كافرا قال اللّه- تعالى-: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ. «2»

2- خبر صفوان بن مهران الجمّال قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ فيكم خصلتين هلك بهما من قبلكم من الأمم. قالوا: و ما هما يا بن رسول اللّه؟ قال:

المكيال

و الميزان.» «3»

3- خبر أبي حمزة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: وجدنا في كتاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إذا ظهر الزنا من بعدي كثر موت الفجأة. و إذا طفّف الميزان و المكيال أخذهم اللّه بالسنين و النقص.» «4»

4- خبر الفضل بن شاذان عن الرضا عليه السّلام في كتابه إلى المأمون في عداد الكبائر: «و البخس في المكيال و الميزان.» «5»

______________________________

(1) سورة هود (11)، الآيتان 84 و 85.

(2) الوسائل 1/ 23، كتاب الطهارة، الباب 2 من أبواب مقدّمة العبادات، الحديث 14.

(3) الوسائل 12/ 291، كتاب التجارة، الباب 7 من أبواب آداب التجارة، الحديث 7.

(4) الوسائل 11/ 513، كتاب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، الباب 41 من أبواب الأمر و النهي، الحديث 2.

(5) الوسائل 11/ 260، كتاب الجهاد، الباب 46 من أبواب جهاد النفس ...، الحديث 33.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 12

..........

______________________________

5- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عباس قال: لمّا قدم النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا فأنزل اللّه- عزّ و جلّ-: وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ فأحسنوا الكيل بعد ذلك.» «1» إلى غير ذلك من الأخبار من طرق الفريقين.

و أمّا الإجماع

فوجوده إجمالا ممّا لا إشكال فيه و لكن يمكن أن يقال: إن أريد به الإجماع التحقيقي أمكن منع ذلك إذ هو فرع عنوان المسألة في كتب القدماء من أصحابنا بحيث يحدس به حدسا قطعيّا تلقّيهم المسألة عن المعصومين عليهم السّلام و الظاهر عدم عنوان المسألة في كثير من الكتب. و لو سلّم فليس إجماعا تعبديّا و دليلا مستقلا في المقام، إذ من المظنون جدّا كون مدرك المفتين الآيات و الروايات الواردة في

المسألة.

و إن أريد به الإجماع التقديري بمعنى أنّ المسألة بحدّ من الوضوح يعلم بذلك إفتاء الجميع بالحرمة لو سئلوا عنها فيرد عليه أنّ التقدير على فرض تحقّقه لا يدلّ على تلقي المسألة عن المعصومين عليهم السّلام لما مرّ من أنّ المظنون كونه مدركيّا.

و أمّا العقل

فلكون التطفيف بالمعنى الأعمّ ظلما في حقّ الغير و الظلم قبيح بحكم العقل، و ما حكم به العقل حكم به الشرع. هذا و مع ذلك كلّه يظهر من المحقّق الإيرواني «ره» المناقشة في المسألة قال في الحاشية ما هذا لفظه:

«اعلم أنّ الظاهر بل المقطوع به أنّ التطفيف بنفسه ليس عنوانا من العناوين المحرّمة أعني الكيل بالمكيال الناقص و كذا البخس في الميزان مع وفاء الحقّ كاملا كما إذا كان ذلك لنفسه أو تمّم حق المشتري من الخارج أو أراد المقاصّة منه أو نحو ذلك، كما أنّ إعطاء الناقص أيضا ليس حراما بل قد يتّصف بالوجوب، و إنّما

______________________________

(1) سنن البيهقي 6/ 32، كتاب البيوع، باب ترك التطفيف في الكيل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 13

و لو وازن الربوي بجنسه فطفّف في أحدهما (1) فإن جرت المعاوضة على الوزن المعلوم الكلّي فيدفع الموزون على أنّه بذلك الوزن، اشتغلت ذمّته بما نقص.

______________________________

المحرّم عدم دفع بقيّة الحقّ إذا لم يكن الحقّ مؤجّلا و إلّا لم يكن ذلك أيضا بمحرّم بل يكون التعجيل فيما أعطاه تفضّلا و إحسانا.

نعم إن أظهر و لو بفعله أنّ ما دفعه تمام الحقّ مع أنّه ليس بتمام الحقّ كان محرّما من حيث الكذب و إن لم يظهر لم يحرم من هذا الحيث أيضا.» «1»

و أجاب عن ذلك في مصباح الفقاهة بقوله: «إنّ التطفيف قد أخذ فيه عدم الوفاء بالحقّ. و

البخس هو نقص الشي ء على سبيل الظلم، و هما بنفسهما من المحرّمات الشرعيّة و العقليّة. على أنّه قد ثبت الذمّ في الآية الشريفة على نفس عنوان التطفيف، فإنّ الويل كلمة موضوعة للوعيد و التهديد و يقال لمن وقع في هلاك و عقاب. و كذلك نهى في الآيات المتعدّدة عن البخس كما عرفت آنفا.

و ظاهر ذلك كون التطفيف و البخس بنفسهما من المحرّمات الإلهيّة.» «2»

أقول: الظاهر صحّة ما ذكره. و أمّا ما ذكره المحقّق المذكور من جواز البخس إذا أراد المقاصّة فلا يخفى أنّه من باب تزاحم الحقّين و تغليب حقّ من ظلم في حقّه.

هل تكون المعاملة المطفّف فيها صحيحة أو فاسدة؟

(1) بعد ما ثبت حرمة عمل التطفيف يقع الكلام تارة في حكم الأجرة عليه، و أخرى في حكم المعاملة المطفّف فيها: فنقول: أمّا الأجرة فحرام قطعا لبطلان

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 22.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 243.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 14

و إن جرت على الموزون المعيّن باعتقاد المشتري أنّه بذلك الوزن فسدت المعاوضة في الجميع للزوم الربا.

و لو جرت عليه على أنّه بذلك الوزن بجعل ذلك عنوانا للعوض فحصل الاختلاف بين العنوان و المشار إليه لم يبعد الصحّة. و يمكن ابتناؤه على أنّ لاشتراط المقدار مع تخلّفه قسطا من العوض أم لا، فعلى الأوّل يصحّ دون الثاني.

______________________________

الإجارة على العمل المحرّم.

و أمّا حكم المعاملة فلا يخفى أنّ العوضين إمّا أن يكونا من جنس واحد فيتطرّق فيهما الربا مع التفاوت و إمّا أن لا يكونا كذلك. و المصنّف تعرّض لخصوص القسم الأوّل فقسّمه إلى ثلاث صور.

و محصّل كلامه أنّ المبيع في الصورة الأولى هو الوزن الكلّي و المفروض مساواته لوزن الثمن فالمعاملة صحيحة بلا إشكال، غاية الأمر أنّ ذمّة المطفّف

مشغولة بما نقص.

و المبيع في الصورة الثانية الموزون المعيّن الخارجي، و المفروض كونه أنقص من الثمن فتفسد المعاملة في الجميع، للزوم الربا. و اعتقاد المشتري مساواته للثمن لا يصحّحها، إذ الملاك مصبّ المعاملة لا اعتقاد المشتري.

و في الصورة الثالثة المبيع هو الموزون الخارجي بعنوان أنّه بوزن خاصّ فحصل الاختلاف بين العنوان و المشار إليه الخارجي، فيمكن القول فيها بالصحّة، إذ المعاملة وقعت على العنوان و المفروض مساواته للثمن، فحكمها حكم الصورة الأولى.

و يمكن أن يقال: إنّ المعاملة وقعت على الخارج، و الوزن الخاصّ بمنزلة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 15

..........

______________________________

الشرط، فإن قلنا بأنّ للشرط مطلقا أو لشرط المقدار قسطا من الثمن صحّت المعاملة و ثبت خيار تخلّف الشرط. و إن قلنا بأنّ جميع الثمن في مقابل الذات بطلت للزوم الربا. هذا ما ذكره المصنّف في المقام.

و لكن المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية تعرّض للمسألة بنحو أعمّ من أن يكون العوضان من جنس واحد أم لا. و محصّل ما ذكره صحّة المعاملة في الصورة الأولى أعني فيما إذا وقعت المعاملة على الكلّي مطلقا سواء كان العوضان من جنس واحد أو من جنسين، غاية الأمر اشتغال ذمّة المطفّف بما نقص. و فصّل في الصورة الثانية بين كون العوضين من جنس واحد و عدمه ففي الأوّل تبطل المعاملة للزوم الربا و في الثاني تصحّ، غاية الأمر خيار المشتري سواء ذكر الوزن بنحو الاشتراط في العقد أو وقع العقد مبنيّا عليه. و حكم في الصورة الثالثة ببطلان المعاملة مطلقا، ربوية كانت أم لا، قال ما ملخّصه:

«فإنّ المبيع العنوان المتحقّق في هذا المشاهد، و لا عنوان متحقّق في هذا المشاهد، و ليس المبيع هذا المشاهد بأيّ عنوان كان

و لا العنوان في أيّ مصداق كان، إذ لا وجه لإلغاء الإشارة أو الوصف بل اللازم الأخذ بكليهما. و هذا الحكم سيّال في كلّ مشاهد بيع تحت عنوان من العناوين كما إذا بيع هذا الذهب فظهر أنّه مذهّب أو هذا البغل فظهر أنّه حمار أو هذه الجارية فظهر أنّه عبد.

و ربّما يفرّق بين الأوصاف الذاتيّة و العرضيّة فيحكم بالصحّة مع الخيار في الثاني كما إذا باع هذا الروميّ فبان أنّه زنجيّ، أو هذا الكاتب فبان أنّه أمي. و كأنّه لاستظهار الشرطيّة في الأوصاف العرضيّة، و ليكن المقام من ذلك، و المسألة مشكلة فإنّ الظاهر دخل العنوان و إن كان عرضيّا.» «1» انتهى.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 16

..........

______________________________

و ناقشه في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «لا وجه للبطلان إذا تخلّف العنوان فإنّه ليس من العناوين المقوّمة للصورة النوعيّة، بل إمّا أن يكون مأخوذا على نحو الشرطيّة أو على نحو الجزئيّة.

و لا يقاس ذلك بتخلّف العناوين التي تعدّ من الصور النوعيّة عند العرف كما إذا باع صندوقا فظهر أنّه طبل أو ذهبا فظهر أنّه مذهّب أو بغلا فظهر أنّه حمار فإنّ البطلان في أمثالها ليس من جهة انفكاك العنوان عن الإشارة بل من جهة عدم وجود المبيع أصلا.

و ربّما يقال: إنّ المورد من صغريات تعارض الإشارة و العنوان.

و فيه: أنّ الكبرى و إن كانت مذكورة في كتب الشيعة و السنّة إلّا أنّها لا تنطبق على ما نحن فيه فإنّ البيع من الأمور القصديّة فلا معنى لتردّد المتبايعين فيما قصداه. نعم قد يقع التردّد منهما في مقام الإثبات من جهة اشتباه ما هو المقصود بالذات.

و الذي ينبغي أن يقال: إنّ الصور في

المقام ثلاث:

الأولى: أن يكون إنشاء البيع معلقا على كون المبيع بوزن خاصّ. و هذا لا إشكال في بطلانه لا من جهة التطفيف و لا من جهة تخلّف الوصف، بل لقيام الإجماع على بطلان التعليق في الإنشاء.

الثانية: أن ينشأ البيع منجّزا على المتاع الخارجي بشرط كونه كذا مقدارا ثمّ ظهر الخلاف. و هذا لا إشكال في صحّته فإنّ تخلّف الأوصاف غير المقوّمة لا يوجب بطلان المعاملة غاية الأمر أنّه يوجب خيار المشتري.

الثالثة: أن يكون مقصود البائع بيع الموجود الخارجي فقط و كان غرضه من الاشتراط الإشارة إلى تعيين مقدار العوضين و وقوع كلّ منهما في مقابل الآخر

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 17

..........

______________________________

بحيث يقسّط الثمن على أجزاء المثمن. و عليه فإذا ظهر الخلاف صحّ البيع في المقدار الموجود و بطل في غيره نظير بيع ما يملك و ما لا يملك كالخنزير مع الشاة، و الظاهر هي الصورة الأخيرة فإنّ مقصود البائع من الاشتراط المذكور ليس إلّا بيان مقدار المبيع. هذا كلّه إذا لم يكن البيع ربويّا، و أمّا إذا كان ربويّا فإن كان من قبيل الصورة الأولى بطل البيع للتعليق مع قطع النظر عن التخلّف و كون المعاملة ربويّة. و إن كان من قبيل الصورة الثانية بطل البيع لكونه ربويّا مع قطع النظر عن تخلّف الشرط. و إن كان من قبيل الصورة الثالثة قسّط الثمن على الأجزاء و صحّ في المقدار الموجود و بطل في غيره.» «1» انتهى.

أقول: ما ذكره المصنّف أخيرا من أنّ لاشتراط المقدار قسطا من العوض إن أريد به أن يكون للشرط مطلقا قسط منه فهو مخالف لما تسالم الأصحاب عليه من وقوع الثمن بتمامه في قبال الذات و إن أوجب

الشرط زيادة الرغبة فيها. و إن أريد به أنّ شرط المقدار يخالف سائر الشروط، لرجوعه إلى جعل الثمن في قبال أجزاء المثمن و تقسيطه عليها و رجوع تخلّفه إلى تخلّف الجزء فالظاهر صحّة ذلك، لأنّه المتفاهم منه عند العرف. و قد استظهر ذلك في مصباح الفقاهة أيضا كما مرّ في كلامه. و إن شئت تفصيل المسألة من المصنّف فراجع المسألة السّابعة من مسائل شرط الفعل من باب الشروط. «2»

و مثّل المصنّف هناك لذلك بما إذا باع أرضا على أنّها جربان معيّنة أو صبرة على أنّها أصوع معينة فظهر خلاف ذلك. و بذلك يظهر المناقشة فيما ذكره الإيرواني «ره» من أنّ الظاهر دخل العنوان و إن كان عرضيّا فتأمّل.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 244.

(2) راجع كتاب المكاسب للشيخ الأنصاري/ 286.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 18

..........

______________________________

و الحاصل: أنّ الشرط على ثلاثة أقسام:

الأوّل: أن يكون من العناوين المقوّمة الذاتيّة و الصورة النوعيّة فإن تخلّف بطلت المعاملة، لفقدان موضوعها و إن فرض التعبير عنه بلفظ الشرط مثل أن يقول: بعتك هذا على أن يكون ذهبا فظهر أنّه فضّة مثلا.

الثاني: أن يكون من قبيل الكلّ ذي الأجزاء بحيث يقسط الثمن عليها عرفا، فإن تخلّف صحّت المعاملة بالنسبة إلى ما وجد منها و قسّط الثمن نظير بيع ما يملك و ما لا يملك. نعم يكون للمشتري خيار تبعّض الصّفقة.

الثالث: أن يكون من قبيل الحالات العرضيّة ككتابة العبد مثلا فإن تخلّفت صحّت المعاملة و وقع تمام الثمن بإزاء الذات و إن كان للمشتري خيار تخلّف الشرط، و الظاهر أنّ العنوان المشتمل عليها أيضا بمنزلة الشرط عند العرف.

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ العرف يفرّق بين الحالات العرضيّة و ربّما تكون الحالة العرضيّة

ركنا عند المتعاملين و تكون هي المقصودة للمشتري دون أصل الذات فوقوع تمام الثمن بإزاء نفس الذات تحميل على المشتري بأمر لم يقصده و العقود تابعة للقصود. و ماهية العقود و حدودها و شرائطها تؤخذ من العرف ما لم يرد من الشرع خلافها، و التفصيل موكول إلى باب الشروط.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 19

[المسألة السادسة: التنجيم]

اشارة

المسألة السادسة: التنجيم حرام و هو كما في جامع المقاصد: الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة. (1)

______________________________

المسألة السادسة: التنجيم

(1) أقول: لم يفسّر المصنّف بنفسه التنجيم و انّما ذكر صدر كلام جامع المقاصد، و ليس فيما ذكر اسم من تأثير أوضاع النجوم في الحوادث إلّا أن يقال:

إنّ التعبير بالأحكام يشعر بنحو من التأثير و المدخليّة، و كيف كان فلنذكر بعض الكلمات لزيادة البصيرة في المسألة و إن تعرّض المصنّف لبعضها:

نقل بعض الكلمات في المسألة و بيان تمايزه من الهيئة
اشارة

1- قال العلّامة في القواعد: «و التنجيم حرام، و كذا تعلّم النجوم مع اعتقاد تأثيرها بالاستقلال أو لها مدخل فيه [و أنّ لها مدخلا فيه. خ]» «1»

أقول: سيأتي أنّ للشمس و القمر و النجوم بأنوارها نحو مدخليّة طبيعيّة في بعض حوادث الأرض فليس الاعتقاد بكلّ مدخليّة حراما. و ليعلم أنّ هنا علمين

______________________________

(1) القواعد للعلّامة 1/ 121، كتاب المتاجر؛ جامع المقاصد 4/ 31.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 20

..........

______________________________

مرتبطين بالنجوم و الأفلاك.

الأول: علم الهيئة، و هو علم يبحث فيه عن نظام العالم العلوي و حركات النجوم و أوضاعها بقياس بعضها إلى بعض: من الطلوع و الغروب و المدار و القرب و البعد و الاقتران و الكسوف و الخسوف و الاحتراق و الارتفاع و الحضيض و نحو ذلك.

الثاني: علم النجوم، و هو علم يبحث فيه عن ارتباط حوادث الكون و العالم السفلي بأوضاع النجوم و كيفيّة تأثيرها فيها كارتباط المواليد و الأعمار و الوفيات و الرخص و الغلاء و السعد و النحس و القتال و الصلح و نحو ذلك من حوادث الكون بأوضاع النجوم و حالاتها.

و لا يخفى أنّ علم الهيئة بذاته علم شريف يوجب الاطلاع عليه زيادة معرفة بالنسبة إلى الحقّ-

تعالى- و صفاته و أفعاله. و إنّما البحث في المقام في علم النجوم.

2- و ذيّل كلام القواعد في جامع القاصد بقوله: «و المراد من التنجيم:

الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة التي مرجعها إلى القياس و التخمين؛ فإنّ كون الحركة المعيّنة و الاتصال المعيّن سببا لوجود ذلك (كذا. خ) إنّما يرجع المنجّمون فيه إلى مشاهدتهم وجود مثله عند وجود مثلهما، و ذلك لا يوجب العلم بسببيتهما له، لجواز وجود أمور أخرى لها مدخل في سببيّته لم تحصل الإحاطة بها ... إذا تقرّر ذلك فاعلم أنّ التنجيم- مع اعتقاد أن للنجوم تأثيرا في الموجودات السفليّة و لو على جهة المدخليّة- حرام و كذا تعلّم النجوم على هذا الوجه، بل هذا الاعتقاد كفر في نفسه، نعوذ باللّه منه.

أمّا التنجيم لا على هذا الوجه مع التحرّز من الكذب فإنّه جائز، فقد ثبت كراهة

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 21

..........

______________________________

التزوّج و سفر الحج و القمر في العقرب و نحو ذلك من هذا القبيل.» «1»

أقول: في كلامه نحو مسامحة فإنّ التنجيم نفس استنباط أحكام النجوم لا الإخبار بها، إلّا أن يريد بيان موضوع الحرمة و أنّ المحرّم هو ترتيب الآثار عليه و الإخبار به بنحو الجزم لا نفس الاستنباط، و لكنّه في أثناء كلامه حمل الحرمة على نفس التنجيم مع اعتقاد تأثير النجوم.

ثمّ إنّه يرد عليه أمران آخران:

الأوّل: أنّه حكم بكفر اعتقاد المدخليّة أيضا. و هو بإطلاقه ممنوع كما مرّ في المناقشة على القواعد.

الثاني: أنّ الحكم بكون القمر في العقرب مربوط بعلم الهيئة لا النجوم، و كراهة التزوّج و السفر حينئذ من أحكام الشارع لا المنجّم.

3- و في مكاسب الدروس: «و يحرم اعتقاد تأثير النجوم

مستقلّة أو بالشركة و الإخبار عن الكائنات بسببها. أمّا لو أخبر بجريان العادة أنّ اللّه يفعل كذا عند كذا لم يحرم و إن كره، على أنّ العادة فيها لا تطرّد إلّا فيما قلّ. أمّا علم النجوم فقد حرّمه بعض الأصحاب، و لعلّه لما فيه من التعرّض للمحظور و اعتقاد التأثير أو لأنّ أحكامه تخمينيّة. و أمّا علم هيئة الأفلاك فليس حراما، بل ربّما كان مستحبّا لما فيه من الاطلاع على حكم اللّه- تعالى- و عظم قدرته.» «2»

4- و قال في القواعد و الفوائد: «كلّ من اعتقد في الكواكب أنّها مدبّرة لهذا العالم و موجدة ما فيه فلا ريب أنّه كافر. و إن اعتقد أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه سبحانه هو المؤثّر الأعظم- كما يقوله أهل العدل- فهو مخطئ، إذ لا حياة

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 31، كتاب المتاجر، أقسام المتاجر.

(2) الدروس للشهيد/ 327.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 22

..........

______________________________

لهذه الكواكب ثابتة بدليل عقليّ و لا نقليّ. و بعض الأشعريّة يكفّرون هذا كما يكفّرون الأوّل ... أمّا ما يقال: بأنّ استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار و غيرها من العاديّات بمعنى أنّ اللّه- تعالى- أجرى عادته أنّها إذا كانت على شكل مخصوص أو وضع مخصوص تفعل ما ينسب إليها و يكون ربط المسبّبات بها كربط مسبّبات الأدوية و الأغذية بها مجازا باعتبار الربط العادي لا الفعل الحقيقي، فهذا لا يكفر معتقده و لكنّه مخطئ أيضا و إن كان أقلّ خطأ من الأوّل، لأنّ وقوع هذه الآثار عندها ليس بدائم و لا أكثريّ.» «1»

أقول: ظاهر كلامه أنّ ارتباط حوادث الأرض بالكواكب يجري فيه ثلاثة احتمالات:

[الاحتمالات في ارتباط حوادث الأرض بالكواكب في كلام الشهيد]
الأوّل: أن تكون الكواكب موجدة و مدبرة لها

مختارة في فاعليّتها عاقلة شاعرة بأفعالها مع إنكار

الحقّ تعالى من رأس. و كفر هذا ممّا لا إشكال فيه.

الثاني: هذا الفرض أيضا مع عدم إنكار الحقّ- تعالى

- بل هو المؤثّر الأعظم، إمّا بأن يكون خلق الكواكب ثمّ فوّض إليها خلق ما في الأرض و تدبيرها بنحو صار نفسه منعزلا عن الفاعليّة بالكلّية، أو بأن تكون الكواكب و الحوادث الأرضيّة المرتبطة بها بمراتبها متقوّمة بإرادته و مشيّته حدوثا و بقاء، غاية الأمر أنّ الكواكب وسائط فيضه- تعالى- كما أنّ الإنسان فاعل مختار تستند أفعاله إليه حقيقة و مع ذلك يكون هو بذاته و مشيّته و أفعاله مسخّرة دائما تحت مشيّة اللّه- تعالى-.

و مرجع الشقّ الأوّل إلى التفويض الذي يقول به المعتزلة في جميع نظام الوجود. و مرجع الشقّ الثاني إلى الأمر بين الأمرين المرويّ عن أهل البيت عليهم السّلام.

و كلام المعتزلة يؤول إلى الشرك في الفاعليّة كما لا يخفى، و لذلك كفّرهم بعض

______________________________

(1) القواعد و الفوائد 2/ 35.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 23

..........

______________________________

الأشعريّة و أراد الشهيد بأهل العدل المعتزلة أو المعتزلة و الإماميّة معا فإنّهما قائلان بالحسن و القبح و عدالة اللّه- تعالى- في قبال الأشاعرة. و ظاهر كثير من الفلاسفة الموحّدين اختيار الشقّ الثاني من الاحتمال الثاني، فتكون الكواكب و النظام العلويّ عندهم ذوات عقول و نفوس درّاكة فاعلة بالاختيار مؤثّرة في العالم السفليّ و إن كان الكلّ مسخّرة تحت مشيّة الحقّ- تعالى- و هذه العقيدة موروثة من حكماء يونان و الفرس كما لا يخفى على من تتبّع كتبهم. و لا يصحّ إطلاق الكفر عليها إلّا أن يثبت بالضرورة من الدين خلافها بحيث يرجع الاعتقاد بها إلى إنكار بعض ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الراجع إلى إنكار بعض النبوّة.

الثالث: أن يكون استناد حوادث الأرض إليها من قبيل استناد آثار العلل الماديّة إلى عللها

نظير استناد الإحراق إلى النار و الإضاءة إلى الشمس، إمّا بنحو العليّة التامّة

أو بنحو الاقتضاء فقط بحيث يمكن أن يمنع من تأثيرها بعض الموانع و لو مثل الصدقة أو الدعاء أو نحوهما. و لا يخفى أنّ في تعبير الشهيد «ره» عن هذا الاحتمال بالربط العادي لا الفعل الحقيقي نحو مسامحة، إذا الآثار في عالم الطبيعة آثار لنفس الطبائع و هي علل لها موجبة أو مقتضية في طول إرادة اللّه و مشيّته، و اللّه- تعالى- علّة العلل و مسبّب الأسباب حيث إنّ نظام الوجود من الصدر إلى الذيل نظام الأسباب و المسبّبات و لكنّ اللّه- تعالى- من ورائها محيط، فهي بمراتبها تعلّقي الذات به- تعالى- حدوثا و بقاء و ليس إسناد الآثار إلى عللها الطبيعيّة إسنادا مجازيّا. و التعبير بأنّ اللّه- تعالى- فاعل لهذه الآثار حقيقة جرت عادته على إيجادها عند وجود هذه الطبائع يناسب اعتقاد الأشاعرة المنكرين لفاعليّة غير الحقّ- تعالى- إلّا أن يكون مراد الشهيد بيان عقيدة الأشاعرة في المسألة. و الاعتقاد بالاحتمال الثالث ليس كفرا كما صرّح به الشهيد. بل تأثير

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 24

..........

______________________________

الأجرام العلويّة في الحوادث السفليّة بنحو من التأثير إجمالا ممّا لا ينكر نظير تأثير قرب الشمس من خطّ الاستواء و بعدها عنه في اختلاف الفصول و تأثيرها في تكوّن السحاب و الأمطار و تأثير نورها في نموّ الأشجار و النباتات و سلامة الإنسان و الحيوان و غير ذلك ممّا حرّر في محلّه.

نعم كون جميع الحوادث الأرضيّة من آثار أوضاع الكواكب و حالاتها ممّا لا دليل عليه.

و بالجملة ظاهر كلام الشهيد أنّ المحتمل في ارتباط الحوادث بأوضاع الكواكب ثلاثة، و لكنّ الظاهر أنّ

هنا احتمالات أخر:
الأوّل: أن يعتقد كونها شريكة للّه- تعالى- في الفاعليّة

في عرض واحد إمّا بأن يشتركا في جميع الأفعال، أو بأن ينتسب بعضها إليها

نظير ما عن الثنويّة من نسبة الخيرات إلى: «يزدان» و الشرور إلى: «أهرمن»، و قد مرّ أنّ قول المعتزلة بالتفويض يرجع إلى ذلك.

الثاني: أن يعتقد كون النجوم ذوات أرواح شريفة مقدّسة

من دون أن تكون موجدة للحوادث و لكن يستشفع بها إلى اللّه- تعالى- في قضاء الحاجات كما يستشفع بالأنبياء و الائمّة عليهم السّلام.

الثالث: أن يعتقد الموافاة الوجوديّة بين حوادث الأرض و بين أوضاع الكواكب و حالاتها

من دون تأثير منها فيها فتكون أوضاع الكواكب علائم على حوادث الأرض و كواشف عنها و إن كان وجودها بمشيّة اللّه- تعالى- و قدرته و هذا المعنى هو المدّعى للأشاعرة في جميع الأسباب و المسبّبات و منها أفعال الإنسان حيث يعتقدون أن لا مؤثّر في الوجود إلّا اللّه- تعالى-.

و لا يخفى أنّ الاحتمال الأوّل شرك و كفر. و الثاني جزاف لا دليل عليه. و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 25

..........

______________________________

الثالث على فرض ثبوته إجمالا لم يثبت كليّته. هذا.

5- و قال العلّامة في المنتهى: «التنجيم حرام، و كذا تعلّم النجوم مع اعتقاد أنّها مؤثّرة أو أنّ لها مدخلا في التأثير بالنفع و الضّرر. و بالجملة من يعتقد ربط الحركات النفسانيّة و الطبيعيّة بالحركات الفلكيّة و الاتّصالات الكوكبيّة كافر، و أخذ الأجرة على ذلك حرام. أمّا من يتعلّم النجوم ليعرف قدر سير الكواكب و بعدها و أحوالها من الربيع و الخريف و غيرهما فإنّه لا بأس به.» «1»

أقول: قد ظهر بما ذكرناه أنّ مطلق الاعتقاد بربط الحوادث الكونيّة بالحركات الفلكيّة لا يوجب الكفر، و إنّما يوجبه ما يرجع إلى إنكار اللّه- تعالى- أو توحيده أو رسوله أو ضروريّ من ضروريّات الدين بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار النبوّة و لو ببعضها.

6- و علم الهدى السيّد المرتضى «ره» تعرّض لمسألة التنجيم في الغرر و الدرر و ادّعى إجماع المسلمين على تكذيب المنجّمين و الشهادة بفساد مذاهبهم و بطلان أحكامهم. و قد حكى كلامه في البحار و رسائل الشريف المرتضى المطبوع أخيرا «2» و حيث

إنّ المصنّف في المتن يذكر ما هو المهمّ من كلامه- كما يأتي- لا نرى حاجة إلى نقله هنا.

7- و في البحار عن الشيخ البهائي «ره» ما ملخّصه: «ما يدّعيه المنجّمون من ارتباط بعض الحوادث السفليّة بالأجرام العلويّة، إن زعموا أنّ تلك الأجرام هي العلّة المؤثّرة في تلك الحوادث بالاستقلال أو أنّها شريكة في التأثير فهذا لا يحلّ للمسلم اعتقاده. و علم النجوم المبتنى على هذا كفر، و على هذا حمل ما ورد

______________________________

(1) منتهى المطلب 2/ 1014.

(2) بحار الأنوار 55/ 281 (ط. بيروت)؛ رسائل الشريف المرتضى 2/ 301.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 26

..........

______________________________

من التحذير عن علم النجوم، و إن قالوا: إنّ اتصالات تلك الأجرام و ما يعرض لها من الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم ممّا يوجده اللّه- سبحانه- بقدرته و إرادته، كما أنّ حركات النبض و اختلافات أوضاعه يستدلّ بها الطبيب على ما يعرض للبدن من قرب الصحّة أو اشتداد المرض و نحو ذلك فهذا لا مانع منه و لا حرج في اعتقاده، و ما روي من صحّة علم النجوم محمول على هذا المعنى.» «1»

8- و في كفاية السبزواري: «و علم النجوم حرّمه بعض الأصحاب. و الأقرب الجواز، لظاهر بعض الروايات المعتبرة. و صنّف ابن طاوس رسالة أكثر فيها من الاستشهاد على صحّته و جوازه.» «2»

9- و في مفتاح الكرامة في ذيل ما مرّ من قواعد العلّامة قال: «اختلف العلماء- على قديم الدهر في هذه المسألة اختلافا شديدا و هي عامّة البلوى فوجب تحريرها و تنقيحها فنقول: ذهب السيّد عليّ بن طاوس إلى أنّ التنجيم من العلوم المباحات، و أنّ للنّجوم علامات و دلالات على الحادثات لكن يجوز للقادر الحكيم أن

يغيّرها بالبرّ و الصدقة و الدعاء و غير ذلك من الأسباب. و جوّز تعليم علم النجوم و تعلّمه و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة، و حمل أخبار النهي و الذمّ على ما إذا اعتقد ذلك، و أنكر على علم الهدى تحريم ذلك، ثمّ ذكر لتأييد هذا العلم أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به. و الذي يعرف من كتب الرجال و كلام السيّد المذكور و كتاب أبي معشر الخراساني صاحب كتاب المدخل و غيرهم: أنّ من العلماء العاملين بالنجوم.»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 291، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم ...

(2) الكفاية/ 87، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 27

..........

______________________________

ثمّ ذكر هذه الأسماء: «عبد الرحمن بن سيّابة، و الحسن بن موسى النوبختي، و أحمد بن محمّد بن خالد البرقي، و محمّد بن أبي عمير، و أبا خالد السّجستاني، و حسن بن أحمد بن محمّد العاصمي، و الشيخ إبراهيم النوبختي، و موسى بن الحسن بن عباس بن نوبخت، و الفضل بن أبي سهل بن نوبخت، و محمد بن مسعود العياشي، و عليّ بن الحسين المسعوديّ، و أبا القاسم بن نافع الشيعي، و إبراهيم الفزاري، و أحمد بن يوسف المصري، و محمّد بن عبد اللّه بن عمر البازيار القميّ، و أبا الحسين بن أبي الخصيب القمي، و أبا جعفر السقاء المنجّم، و محمود بن الحسين السندي، و أبا الحسين الصوفي و أبا نصر بن على القمي، و أحمد بن محمّد بن السنجري، و عليّ بن أحمد العمراني، و إسحاق بن يعقوب الكندى» إلى آخر ما حكاه في مفتاح الكرامة فراجع «1» و إن شئت العثور على الروايات و كلمات

القوم في هذا المجال فراجع البحار و مرآة العقول. «2»

______________________________

(1) مفتاح الكرامة 4/ 74، كتاب المتاجر.

(2) بحار الأنوار 55/ 217 و ما بعدها (ط. بيروت)، مرآة العقول 26/ 458، كتاب الروضة، هل يجوز النظر في علم النجوم، الحديث 508.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 28

[أربع مقامات في إيضاح المسألة]
اشارة

و توضيح المطلب يتوقّف على الكلام في مقامات:

[الاوّل: الإخبار عن الأوضاع الفلكيّه]

الأوّل: الظاهر أنّه لا يحرم الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة المبتنية على سير الكواكب- كالخسوف الناشئ عن حيلولة الأرض بين النيّرين، و الكسوف الناشئ عن حيلولة القمر أو غيره- بل يجوز الإخبار بذلك إمّا جزما إذا استند إلى ما يعتقده برهانا، أو ظنّا إذا استند إلى الأمارات. (1)

و قد اعترف بذلك جملة ممّن أنكر التنجيم، منهم السيّد المرتضى و الشيخ أبو الفتح الكراجكي فيما حكي عنهما. [حيث حكي عنهما]- في ردّ الاستدلال على إصابتهم في الأحكام بإصابتهم في الأوضاع- ما حاصله: «أنّ الكسوفات و اقتران الكواكب و انفصالها من باب الحساب و سير الكواكب، و له أصول صحيحة و قواعد سديدة و ليس

______________________________

(1) أقول: إن كانت الأمارات من الحجج الشرعيّة جاز الإخبار بمؤدّاها بنحو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 29

كذلك ما يدّعونه من تأثير الكواكب في الخير و الشرّ و النفع و الضرر. و لو لم يكن الفرق بين الأمرين إلّا الإصابة الدائمة المتّصلة في الكسوفات و ما يجري مجراها فلا يكاد يبين فيها خطأ، و إنّ الخطأ الدائم المعهود إنّما هو في الأحكام، حتى أنّ الصواب فيها عزيز، و ما يتّفق فيها من الإصابة قد يتّفق من المخمّن أكثر منه فحمل أحد الأمرين على الآخر بهت و قلّة دين». انتهى المحكي من كلام السيّد- رحمه اللّه- «1»

و قد أشار إلى جواز ذلك في جامع المقاصد مؤيّدا ذلك بما ورد من كراهة السفر و التزويج في برج العقرب.

لكن ما ذكره السيّد- رحمه اللّه- من الإصابة الدائمة في الإخبار عن الأوضاع، محلّ نظر، لأن خطأهم في الحساب في غاية الكثرة. و لذلك لا يجوز الاعتماد في ذلك

على عدولهم فضلا عن فسّاقهم، لأنّ حسابهم مبتنية على أمور نظرية مبتنية على نظريّات أخر إلّا فيما هو كالبديهي- مثل إخبارهم بكون القمر في هذا اليوم في برج العقرب، و انتقال الشمس من برج إلى برج في هذا اليوم- و إن كان يقع الاختلاف

______________________________

الإطلاق و إلّا وجب أن يصرّح المخبر بكون خبره عن ظنّ. ثمّ لا يخفى أنّ المقام الأوّل الذي ذكره المصنّف يرتبط بعلم الهيئة الذي مرّ عدم حرمته قطعا بل صرّح في الدروس باستحبابه كما مرّ. «2»

______________________________

(1) راجع رسائل الشريف المرتضى 2/ 311؛ مفتاح الكرامة 4/ 80، كتاب المتاجر.

(2) راجع الدروس/ 327، كتاب المكاسب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 30

بينهم فيما يرجع إلى تفاوت يسير، و يمكن الاعتماد في مثل ذلك على شهادة عدلين منهم إذا احتاج الحاكم لتعيين أجل دين أو نحوه. (1)

______________________________

(1) يمكن أن يقال: إنّ بناء العقلاء على الاعتماد بقول أهل خبرة كلّ فنّ فيما يرتبط بفنّه و تخصّصه إذا كان ثقة و لم يردع عن ذلك الشارع. و بهذا الملاك أيضا يرجعون إلى الفقهاء في المسائل الدينيّة و يعتمدون عليهم فلا يحتاج إلى التعدّد. و إن أبيت ذلك فيمكن منع حجيّة قول العدلين أيضا، لعدم كون المخبر به من الأمور الحسّية. نعم لو حصل الاطمينان كان حجّة قطعا، لأنّه علم عاديّ يعتمد عليه العقلاء في جميع الأمور.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 31

[الثاني: الإخبار بحدوث الأحكام عند الاتصالات و الحركات المذكورة]

الثاني: يجوز الإخبار بحدوث الأحكام عند الاتصالات و الحركات المذكورة- بأن يحكم بوجود كذا في المستقبل عند الوضع المعيّن: من القرب و البعد و المقابلة و الاقتران بين الكوكبين- إذا كان على وجه الظنّ. (1) المستند إلى تجربة محصّلة أو منقولة في وقوع تلك

الحادثة بإرادة اللّه عند الوضع الخاصّ من دون اعتقاد ربط بينهما أصلا. بل الظاهر حينئذ جواز الإخبار على وجه القطع إذا استند إلى تجربة قطعيّة، إذ لا حرج على من حكم قطعا بالمطر في هذه الليلة نظرا إلى ما جرّبه من نزول كلبه من السطح إلى داخل البيت مثلا، كما حكي أنّه اتفق ذلك لمروّج هذا العلم بل محييه «نصير الملّة و الدين» حيث نزل في بعض أسفاره على طحّان له طاحونة خارج البلد فلمّا دخل منزله صعد السطح لحرارة الهواء فقال له صاحب المنزل: انزل و نم في البيت تحفّظا من المطر، فنظر المحقّق إلى الأوضاع الفلكيّة فلم ير شيئا فيما هو مظنّة للتأثير في المطر، فقال صاحب المنزل: إنّ لي كلبا ينزل في كلّ ليلة يحسّ المطر

______________________________

(1) و لكن يجب أن يصرّح في إخباره بكونه عن ظنّ إلّا أن يكون هنا أمارة شرعيّة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 32

فيها إلى البيت فلم يقبل منه المحقّق ذلك و بات فوق السطح فجائه المطر في الليل و تعجّب المحقّق.

ثمّ إنّ ما سيجي ء في عدم جواز تصديق المنجّم يراد به غير هذا أو ينصرف إلى غيره لما عرفت من معنى التنجيم. (1)

______________________________

(1) لم يفسّر المصنّف فيما مضى لفظ التنجيم، و إنما حكى عن جامع المقاصد تفسيره بالإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة، و ليس في هذه العبارة اسم من تأثير أوضاع النجوم في الحوادث إلّا أن يستظهر ذلك من لفظ الأحكام.

ثمّ إنّ في تفسيره بالإخبار نحو مسامحة كما مرّ، إذ المتبادر منه نفس استخراج الأحكام بالنظر فيها و الاعتقاد بارتباطها بها و إن لم يخبر بذلك و بعبارة أخرى هنا ثلاثة

أمور: استخراج الأحكام و الاعتقاد الجازم بها و الإخبار عنها، و كل واحد منها قابل للبحث و لكن الظاهر من اللفظ نفس الاستخراج كما لا يخفى.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 33

[الثالث: الإخبار عن الحادثات و الحكم بها مستندا إلى تأثير الاتصالات]

الثالث: الإخبار عن الحادثات و الحكم بها مستندا إلى تأثير الاتصالات المذكورة فيها بالاستقلال أو بالمدخليّة و هو المصطلح عليه بالتنجيم (1) فظاهر الفتاوى و النصوص حرمته مؤكّدة:

فقد أرسل المحقّق في المعتبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه: «من صدّق منجّما أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.» (2) و هو يدلّ على حرمة حكم التنجيم بابلغ وجه.

______________________________

(1) دعوى اختصاص التنجيم اصطلاحا بصورة اعتقاد تأثير الأوضاع و الاتصالات في الحوادث أو انصرافه إلى خصوص ذلك قابلة للمنع، و إطلاق اللفظ يشمل ما إذا اعتقد بالموافاة الوجوديّة و المقارنة دائما كما لا يخفى.

(2) راجع الوسائل «1» و الرواية- كما ترى- مرسلة لا اعتبار بها.

أقول: قال ابن الأثير في النهاية: «الكاهن: الذي يتعاطى الخبر عن الكائنات في مستقبل الزمان و يدّعي معرفة الأسرار و قد كان في العرب كهنة الخ.» «2» و دلالة الرواية على حرمة تصديق المنجّم و الكاهن واضحة.

و ظاهر كلام المصنّف دلالتها على حرمة حكمهما و إخبارهما بطريق أولى.

و ناقش في ذلك المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية قال: «فإنّه يحرم تصديق الفاسق في الأحكام الشرعيّة و لا يحرم إخباره عنها، و لئن استفيد من حرمة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 104، كتاب التجارة، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 104.

(2) النهاية لابن الأثير 4/ 214.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 34

و في رواية نصر بن قابوس عن الصادق

عليه السّلام: أنّ «المنجّم ملعون،

______________________________

تصديقه حرمة إخباره لا يستفاد إلّا حرمة إخباره بوقوع الحوادث سواء كان مع اعتقاد التأثير أو لا، و لعلّ الكفر من جهة استلزام تصديقه إنكار تأثير الدعاء و الصدقة في دفع ذلك.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ لفظ المنجّم في هذه الرواية و ما بعدها مطلق و ليس فيها اسم من اعتقاد التأثير. و كون المصطلح عليه بهذا اللفظ- حتى في الأخبار الواردة- خصوص من اعتقد ذلك غير واضح. و على هذا فيعمّ اللفظ صورة اعتقاد الموافاة الوجوديّة بنحو الإطلاق و الدوام أيضا. و لعلّ الشارع الحكيم أراد نهي الناس عن تنظيم الأعمال و الحركات و النشاطات الاجتماعية على أساس إخبار المنجّمين و الكهنة الموجب ذلك الاختلال في النظم الاجتماعى و تعطيل كثير من الأسفار و النشاطات، و تكذيب ما ورد في التوكّل على اللّه و طلب الخير منه و التصدّق للأسفار و دفع البلايا و الدعاء، و التضرّع إلى اللّه- تعالى- و المراد بتصديق المنجّم و الكاهن تصديقهما عملا بترتيب الآثار على إخبارهما و ترك النشاطات اليوميّة لذلك.

و يشهد لذلك كثير من الروايات الواردة، و من ذلك قوله عليه السّلام في رواية عبد الملك بن أعين الآتية في المتن: «تقضي» قلت: نعم، قال: «أحرق كتبك» حيث يظهر منها أنّ المنهي عنه ترتيب الأثر على ما استخرجه من النجوم، و ليس فيها «إنّك تعتقد التأثير؟»، و حمل أخبار المنع على صورة اعتقاد التأثير و أخبار الجواز على صورة عدم اعتقاده جمع تبرّعي لا شاهد له فتأمّل.

______________________________

(1) حاشية المكاسب/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 35

و الكاهن ملعون، و السّاحر ملعون.» (1)

و في نهج البلاغة: إنّه عليه السّلام لمّا أراد المسير إلى

بعض أسفاره فقال له بعض أصحابه: إن سرت في هذا الوقت خشيت أن لا تظفر بمرادك- من طريق علم النجوم- فقال عليه السّلام له: «أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها انصرف عنه السوء؟ و تخوّف السّاعة التي من سار فيها حاق به الضرّ؟ فمن صدّقك بهذا القول فقد كذّب القرآن و استغنى عن الاستعانة باللّه- تعالى- في نيل المحبوب و دفع المكروه- إلى أن قال-:

أيّها الناس إيّاكم و تعلّم النجوم إلّا ما يهتدي به في برّ أو بحر فإنّها تدعو إلى الكهانة [و المنجّم كالكاهن] و الكاهن كالسّاحر و السّاحر كالكافر و الكافر في النار الخ.» (2)

______________________________

(1) راجع الوسائل «1»- و نصر بن قابوس ثقة «2» و السند إليه لا يخلو من حسن. و الملعون: المطرود عن رحمة اللّه، و ظاهره الحرمة، و ليس في الرواية اسم من الإخبار و لا اعتقاد التأثير، بل يظهر منها أنّ من يستخرج الحوادث من أوضاع النجوم مطرود عن رحمة اللّه- تعالى- و إن لم يعتقد بكونها مؤثّرة فيها فيشمل من اعتقد الموافاة الوجوديّة أيضا و يرتّب الأثر عليه.

(2) راجع نهج البلاغة «3»، و الظاهر من قوله: «فمن صدّقك» تصديقه عملا من جهة الاعتقاد بإصابته و وقوع ما يخبر به لا محالة و لو من جهة الموافاة

______________________________

(1) الوسائل 12/ 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 7.

(2) راجع تنقيح المقال 3/ 269.

(3) نهج البلاغة، فيض 1/ 177؛ عبده 1/ 124؛ لح/ 105، الخطبة 79.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 36

و قريب منه ما وقع بينه عليه السّلام و بين منجّم آخر نهاه عن المسير أيضا، فقال عليه السّلام له: «أ تدري

ما في بطن هذه الدابّة أذكر أم أنثى؟» قال: إن حسبت علمت، قال عليه السّلام: «فمن صدّقك بهذا القول فقد كذّب بالقرآن، قال اللّه: إِنَّ اللّٰهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السّٰاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ مٰا فِي الْأَرْحٰامِ ... الآية، ما كان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدّعي ما ادّعيت. أ تزعم أنّك تهدي إلى الساعة التي من سار فيها صرف عنه السوء، و السّاعة التي من سار فيها حاق به الضرّ؟ من صدّقك بهذا استغنى بقولك عن الاستعانة باللّه في ذلك الوجه، و أحوج إلى الرغبة إليك في دفع المكروه عنه.» (1)

______________________________

الوجوديّة التي لا تتخلّف بحيث لا يدفعها الاستعانة باللّه- تعالى-.

(1) هذه قطعة ممّا رواه في الوسائل عن أمالي الصدوق بسنده عن عبد اللّه ابن عوف أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا أراد المسير إلى أهل النهروان أتاه منجّم فنهاه عنه فقال عليه السّلام: «و لم؟ ...» «1»

و ليس فيه و كذا فيما قبله اسم من اعتقاد المنجّم تأثير الأوضاع الفلكيّة في الحوادث السفليّة و لم يسأله الإمام عليه السّلام عن أنّه يعتقد التأثير أم لا، فلعلّه كان معتقدا بالموافاة الوجوديّة القطعيّة الدائمة بحيث لا تتخلّف و كون الربط بينهما من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف. و غرضه عليه السّلام نفي الاعتماد القطعيّ على إخبار

______________________________

(1) الوسائل 8/ 269، كتاب الحجّ، الباب 14 من أبواب آداب السفر الى الحجّ و غيره، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 37

و في رواية عبد الملك بن أعين- المروية عن الفقيه-: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: إنّي قد ابتليت بهذا العلم فأريد الحاجة فإذا نظرت إلى الطالع و رأيت الطالع الشرّ جلست و لم

أذهب فيها، و إذا رأيت الطالع الخير ذهبت في الحاجة؟ فقال لي: «تقضي؟» قلت: نعم، قال: «أحرق كتبك.» (1)

______________________________

المنجّم عملا لعدم اطلاعهم على خفايا الأمور المستقبلة و أنّ علم الغيب يختصّ باللّه- تعالى- فعلى الإنسان أن يتوكّل عليه و يستعين به و يأتي بما يراه خيرا ذا مصلحة.

(1) راجع الفقيه و الوسائل «1»، و ليس في الرواية إنّ عبد الملك كان يعتقد تأثير الطوالع في الحوادث بنحو الاستقلال أو بالمدخليّة، و لكن يظهر منها أنّه كان يعتقد الموافاة الدائمة بين الطوالع و بين الحوادث و بنى نشاطاته اليوميّة على أساس ما يراه من الطوالع، فقوله عليه السّلام: «تقضي؟» سؤال عن الحكم على و فقها و العمل على طبقها فلمّا أقرّ بذلك أمره الإمام عليه السّلام بإحراق كتبه فغرضه عليه السّلام النهي عن هذا البناء العملي.

و محصّل الكلام: أن الظاهر أنّ هذه الروايات ليست ناظرة إلى بيان أمر اعتقادي و أنّ الاعتقاد بكون العلويّات مؤثّرات في السفليّات بنحو الاستقلال أو بنحو المدخليّة خطأ أو كفر، بل ليست ناظرة إلى نفي تأثيرها بالكليّة أيضا. و إنّما

______________________________

(1) راجع الفقيه 2/ 267، كتاب الحجّ، الحديث 2402؛ الوسائل 8/ 268، كتاب الحج، الباب السابق، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 38

..........

______________________________

هي بصدد النهي عن تنظيم النشاطات اليوميّة و الاجتماعيّة على أساس أقوال المنجّمين أو الكهنة و التوجّه إليهم و الاستعانة منهم، لأنّ المؤثّر في العالم هو اللّه- تعالى- و نظام الوجود بعلويّاته و سفليّاته مسخّرة له و هو الفاعل لما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت فيجب التوجّه إليه و الاستعانة منه و التضرّع إلى ساحته و الإقدام في كلّ ما يراه الإنسان خيرا و صلاحا.

و

هذا لا ينافي نحو ارتباط بين العلويّات و الحوادث إمّا بنحو الموافاة و المقارنة الوجوديّة أو بنحو من الاقتضاء أيضا نظير اقتضاء سائر العوامل الطبيعيّة فإنّ النظام نظام الأسباب و المسبّبات. و لكن على فرض اقتضاء بعض العلويّات للحوادث فلا كليّة لذلك و ليس بنحو العليّة التامة أيضا و لا إحاطة للمنجّمين بجميعها و خطأهم في ذلك كثير فلا وجه لربط النشاطات و الأعمال بإخبارهم. و بما ذكرنا يظهر أنّ ما يستفاد من ظاهر كلام المصنّف و غيره من نفي المدخليّة بنحو الإطلاق قابل للمناقشة فتدبّر. هذا.

و للمجلسي الأوّل «ره» في ذيل رواية عبد الملك كلام يناسب ذكره في المقام قال في روضة المتقين: «اعلم أنّه قد ورد الأخبار الكثيرة في الكافي و غيره بأنّ للنجوم تأثيرا، و روي في الأخبار الكثيرة تهديدات شديدة في تعليمها و تعلّمها، و لا أعلم خلافا بين أصحابنا في حرمتها. و الذي يظهر من الأخبار الكثيرة أنّ النهي إمّا لسدّ باب الاعتقاد فإنّه يفضي إلى القول بأنّها مستبدّة في التأثير و هي المؤثّرة كما قاله كفرة المنجّمين و هم طائفتان: فطائفة لا يقولون بالواجب بالذات، بل يقولون: إنّها الواجب، و طائفة يقولون بهما و هم مشركون. فلمّا كان هذا العلم يفضي إلى مثل هذه الاعتقادات الفاسدة نهى الشارع عن تعلّمها و تعليمها لئلا يفضي إليها. و إمّا بالنظر إلى الموحّدين الذين يقولون بحدوثها و أنّ لها تأثيرا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 39

..........

______________________________

مثل تأثير السّقمونيا و الفلفل لا شعور لها، أو قيل بشعورها و تأثيرها لكنّها مسخّرات بتسخير الواجب بالذات فالظاهر أنّ هذا الاعتقاد على سبيل الإجمال لا يضرّ. و إمّا بالتفصيل الذي يقوله المنجّمون فإنّه و

هم محض و قول بما لا يعلم، لأنّه لا يمكن الإحاطة به إلّا من علّمه اللّه- تعالى- من الأنبياء و الأئمّة- صلوات اللّه عليهم أجمعين-، و لهذا ورد عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إنّكم تنظرون في شي ء (منها) كثيره لا يدرك و قليله لا ينفع» و قال أمير المؤمنين عليه السّلام للمنجّم الذي نهاه عن الخروج: «إنّك تنهاني عن الخروج لذلك الكوكب أنّه في الهبوط فهل تدري الكوكب الفلاني و الكوكب الفلاني؟» فقال: لا، فقال: «إنّهما في الصعود، كذب المنجّمون و ربّ الكعبة سيروا على اسم اللّه.» و الخبر طويل. و في القويّ عن الصادق عليه السّلام: «إنّ أصل الحساب حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم.» و أقل مراتبه الكذب الذي ورد في الآيات و الأخبار التهديدات العظيمة فيه و نعم ما قال الشيخ أبو عليّ في كتبه: إنّ القول بالنجوم و هم ... مع ما ورد من الآيات و الأخبار في النهي عن القول بالظنّ فكيف الوهم، على أنّه لو كان الجميع صادقا لا يحصل منه إلّا الغمّ و الهمّ، لأنّه لا يمكن تغييرها و الاجتناب عنها بحسب معتقدهم، و لو لم يكن فيه إلّا ترك الإقبال على اللّه- تعالى- و التفويض إليه و التوكّل عليه و الاعتصام بحبله لكفى في قبحه.

فالأنسب بالنسبة الى المؤمن الموحّد أن لا ينظر إليها و أن يتوكّل على اللّه- تعالى- في جميع أموره، و يدفع البلايا بالدعوات و الصدقات كما ورد الآيات و الروايات.» «1» انتهى كلام المجلسي- عليه الرحمة- هذا.

و احتمل المحقّق الإيرواني «ره» في رواية عبد الملك احتمالا آخر: قال: «لا يبعد

______________________________

(1) روضة المتقين 4/ 197 و 198،

كتاب الحجّ.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 40

و في رواية مفضّل بن عمر- المرويّة عن معاني الأخبار- في قوله- تعالى-: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ قال: «و أمّا الكلمات فمنها ما ذكرناه، و منها المعرفة بقدم بارئه و توحيده و تنزيهه عن الشبيه حتّى نظر إلى الكواكب و القمر و الشمس، و استدلّ بأفول كلّ منها على حدوثه و بحدوثه على محدثه، ثمّ اعلم أنّ الحكم بالنجوم خطأ.» (1)

ثمّ إنّ مقتضى الاستفصال في رواية عبد الملك المتقدّمة بين القضاء بالنجوم بعد النظر و عدمه: أنّه لا بأس بالنظر إذا لم يقض به، بل أريد به مجرّد التفؤل إن فهم الخير و التحذّر بالصدقة إن فهم الشرّ. كما يدلّ عليه ما عن المحاسن عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن سفيان بن عمر قال: كنت أنظر في النجوم و أعرفها و أعرف الطالع

______________________________

أن تكون كلمة: «تقضي» بصيغة المجهول يعني إن كانت حاجتك تقضى فأحرق كتبك، لدخول الكتب حينئذ في كتب الضلال فإنّها تورث قطع التوكّل من اللّه- تعالى- و الاعتماد على ما يعتقده من الكتب فإن كان خيرا مضى أو شرّا جلس و استغنى بذلك عن الدعاء و الصدقة. و هذا بخلاف ما إذا كانت تقضى تارة و لا تقضى أخرى فإنّه يكون حينئذ غير معتمد على ما يفهمه فيدعو اللّه و يتضرّع في دفع المكروه عنه.» «1»

(1) راجع المعاني و الوسائل و الرواية في المعاني طويلة جدّا. «2»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 23.

(2) معاني الأخبار/ 126؛ الوسائل 8/ 270، كتاب الحجّ، الباب 14 من أبواب آداب السفر ...، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 41

فيدخلني من ذلك

شي ء فشكوت ذلك إلى أبي الحسن عليه السّلام فقال: «إذا وقع في نفسك من ذلك شي ء فتصدّق على أوّل مسكين ثمّ امض فإن اللّه- تعالى- يدفع عنك.» (1)

و لو حكم بالنجوم على جهة أنّ مقتضى الاتّصال الفلاني و الحركة الفلانية الحادثة الواقعيّة، و إن كان اللّه يمحو ما يشاء و يثبت، لم يدخل أيضا في الأخبار الناهية، لأنّها ظاهرة في الحكم على سبيل البتّ.

______________________________

و من المظنون أنّها من قوله: «و لقول اللّه- تعالى-: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ وجه آخر» من كلام الصدوق فلا يكون ما في المتن من كلام الإمام عليه السّلام فراجع.

(1) راجع المحاسن و الوسائل و المذكور في المحاسن أبو عبد اللّه بدل أبي الحسن عليه السّلام «1». و في الوسائل عن الفقيه «2» بإسناده عن ابن أبي عمير أنّه قال:

كنت أنظر في النجوم الحديث كما في المتن.

و قد تحصّل ممّا ذكرناه أنّ المنظور في هذه الروايات النهي عن الاعتماد على قول المنجّم و ترتيب الأثر عليه عملا إذا كان إخباره بنحو البتّ و الجزم، سواء اعتقد تأثير الكواكب في الحوادث أو اعتقد دلالتها عليها بنحو الكاشف و المكشوف، و لا دلالة في ذلك على حرمة نفس الإخبار إذا كان قاطعا، فيكون نظير إخبار

______________________________

(1) المحاسن 2/ 349؛ الوسائل 8/ 273، كتاب الحج، الباب 15 من أبواب آداب السفر ...، الحديث 4.

(2) الوسائل نفس المصدر و الباب، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 42

كما يظهر من قوله عليه السّلام: «فمن صدّقك بهذا فقد استغنى عن الاستعانة باللّه في دفع المكروه» (1) بالصدقة و الدعاء و غيرهما من الأسباب نظير تأثير نحوسة الأيّام الواردة في الروايات و ردّ نحوستها

بالصدقة.

إلّا أنّ جوازه مبنيّ على جواز اعتقاد الاقتضاء في العلويّات للحوادث السفليّة (2) و سيجي ء إنكار المشهور لذلك و إن كان يظهر ذلك من المحدّث الكاشاني. (3)

و لو أخبر بالحوادث بطريق جريان العادة على وقوع الحادثة عند الحركة الفلانيّة من دون اقتضاء لها أصلا فهو أسلم. (4) قال في

______________________________

الفاسق بما يقطع به و إن لم يكن إخباره حجّة لمن سمعه منه. نعم بناء على ظهور اللعن في الحرمة يكون قوله: «المنجّم ملعون» دالّا على حرمة نفس التنجيم.

(1) قد مرّ هذا المضمون عن نهج البلاغة.

(2) قد مرّ أنّ اقتضاء بعضها لبعضها إجمالا ممّا لا ينكر نظير تأثير قرب الشمس و بعدها في اختلاف الفصول و تأثيرها في تكوّن السحاب و نزول الأمطار و نموّ النبات و الحيوان و الإنسان و نحو ذلك.

(3) يأتي في المتن نقل كلامه في الوافي في توجيه البداء.

(4) و لكن لو كان إخباره بنحو الجزم و البتّ و اعتقاد عدم التخلّف لم يجز التصديق له عملا و ترتيب الآثار عليه، إذ الأخبار الدالّة على حرمة تصديقه يشمل هذا أيضا كما مرّ بيانه. و قد مرّ منّا منع استلزام حرمة التصديق لحرمة الإخبار كما في إخبار الفاسق.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 43

الدروس: «و لو أخبر بأنّ اللّه- تعالى- يفعل كذا عند كذا لم يحرم و إن كره.» انتهى. (1)

______________________________

(1) مرّ كلام الدروس في أوائل المسألة، «1» و يشكل إفتائه بالكراهة، إذ لو شمله إخبار المنع كان الظاهر منها الحرمة. و إلّا فلا دليل على كراهته حيث إنّ الكراهة و الاستحباب مثل الحرمة و الوجوب في الاحتياج إلى دليل معتبر يجوز الإفتاء بمؤدّاه. إلّا أن يقال: إنّ ملاك الكراهة حسن الاحتياط و

الوقوف عند الشبهة، إذ من يرتع حول الحمى أوشك أن يقع فيه.

______________________________

(1) الدروس/ 327، كتاب المكاسب و راجع ص 21 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 44

[الرابع: اعتقاد ربط الحركات الفلكيّة بالكائنات]
اشارة

الرابع: اعتقاد ربط الحركات الفلكيّة بالكائنات.

و الربط يتصوّر على وجوه:

[الأوّل: الاستقلال في التأثير]
اشارة

الأوّل: الاستقلال في التأثير بحيث يمتنع التخلّف عنها امتناع تخلّف المعلول عن العلّة العقليّة. (1) و ظاهر كثير من العبارات كون هذا كفرا:

[ذكر بعض من العبارات]

قال السيّد المرتضى- رحمه اللّه- فيما حكي عنه-: «و كيف يشتبه على مسلم بطلان أحكام النجوم؟. و قد أجمع المسلمون قديما و حديثا على تكذيب المنجّمين و الشهادة بفساد مذهبهم و بطلان أحكامهم. و معلوم من دين الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضرورة تكذيب ما يدّعيه المنجّمون و الإزراء عليهم و التعجيز لهم. و في الروايات عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم [من ذلك] ما لا يحصى كثرة، و كذا من علماء أهل بيته و خيار أصحابه.

______________________________

اعتقاد ربط الكائنات السفليّة بالحركات الفلكيّة

(1) أقول: قد مرّ منّا أنّ هنا علمين مرتبطين بالنجوم و الأفلاك:

الأوّل: علم الهيئة الباحث عن نظام العالم العلويّ و حركات النجوم و أوضاعها بقياس بعضها إلى بعض: من الطلوع و الغروب و القرب و البعد و الاقتران و الكسوف و الخسوف و الأوج و الحضيض و نحو ذلك.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 45

..........

______________________________

الثاني: علم النجوم الباحث عن ارتباط حوادث العالم السفليّ و الكائنات فيه بأوضاع النجوم و كيفيّة تأثيرها فيها كارتباط المواليد و الوفيات و الرخص و الغلاء و القتال و الصلح و نحو ذلك من حوادث الكون بأوضاع النجوم و حركاتها.

ففي الحقيقة حوادث الكون و العالم السفليّ عندهم أحكام و آثار لنظام العالم العلويّ و قد مرّ منّا أيضا نقل كثير من كلمات الأصحاب في المسألة.

و المصنّف تعرّض للمسألة في أربع مقامات: أشار في المقام الأوّل منها إلى علم الهيئة و أنّه لا يحرم الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة المبتنية على سير الكواكب،

و حكم في المقام الثاني بجواز الإخبار علما أو ظنّا بحدوث الأحكام عند الاتصالات و الحركات المذكورة من دون الاعتقاد بتأثيرها فيها، بل بمجرّد الموافاة الوجودية بينهما و ارتباط الكاشف بالمكشوف، و في المقام الثالث تعرّض لحكم الإخبار عن الحادثات مستندا إلى الاتصالات المذكورة فيها بالاستقلال أو بالمدخليّة قال: «و هو المصطلح عليه بالتنجيم» ثمّ حكم بأنّ ظاهر النصوص و الفتاوى حرمته و استدلّ لذلك بما مرّ من الأخبار.

و كيف كان فالمبحوث عنه في المقامات الثلاثة الماضية حكم الإخبار عن الأوضاع الفلكيّة أو عن الحادثات الكونيّة بلحاظها.

و أمّا المقام الرابع المذكور هنا فمحطّ البحث فيه اعتقاد ربط الكائنات السفليّة بالحركات الفلكيّة و أوضاعها فالبحث فيه بحث اعتقادي و أنّه يوجب الكفر أم لا؟.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 46

و ما اشتهر بهذه الشهرة في دين الإسلام كيف يفتى بخلافه منتسب إلى الملّة و مصلّ إلى القبلة؟!.» انتهى (1)

و قال العلّامة في المنتهى- بعد ما أفتى بتحريم التنجيم و تعلّم

______________________________

وجوه الربط أربعة: فقسّم المصنف الربط إلى أربعة وجوه:

الأوّل: أن يكون بنحو الاستقلال في التأثير بحيث يمتنع التخلّف عنها و ظاهره كون تأثيرها فيها من قبيل تأثير الفاعل القادر المختار في أفعاله، و مآله إلى إنكار الصانع بالكلّية.

الثاني: أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها بالاختيار و لكن اللّه- تعالى- هو المؤثّر الأعظم من فوقها نظير الإنسان الفاعل بالاختيار مع الاعتراف بكونه مسخّرا لإرادة الحقّ- تعالى-.

الثالث: استناد الحوادث إليها استنادا طبيعيّا كاستناد الإحراق إلى النار.

الرابع: أن يكون ربط الحركات الفلكيّة بالحوادث السفليّة من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف فقط. فهذه خلاصة مشي المصنّف في المسألة.

(1) راجع المجلّد الثاني من رسائل الشريف المرتضى و البحار، «1» و دلالة هذه العبارة

على كون اعتقادهم كفرا من جهة ظهورها في كونه على خلاف المعلوم من دين الرسول، و ليست عبارته صريحة في اعتقادهم استقلالها في التأثير نعم هو

______________________________

(1) رسائل الشريف المرتضى 2/ 310؛ بحار الأنوار 55/ 288 (ط. بيروت)، كتاب السماء و العالم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 47

النجوم مع اعتقاد أنّها مؤثّرة أو أنّ لها مدخلا في التأثير في الضرّ و النفع- قال: «و بالجملة كلّ من اعتقد ربط الحركات النفسانيّة و الطبيعيّة بالحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة كافر.» انتهى. (1)

و قال الشهيد في قواعده: «كلّ من اعتقد في الكواكب أنّها مدبّرة لهذا العالم و موجدة له فلا ريب أنّه كافر.» (2)

و قال في جامع المقاصد: «و اعلم أنّ التنجيم مع اعتقاد أنّ للنجوم تأثيرا في الموجودات السفليّة- و لو على جهة المدخليّة- حرام، و كذا تعلّم النجوم على هذا النحو، بل هذا الاعتقاد في نفسه كفر نعوذ باللّه منه.» انتهى (3)

______________________________

القدر المتيقّن من ذلك.

(1) راجع المنتهى «1» و قد مرّ منا نقل كلامه و ناقشناه بأنّ مطلق الاعتقاد بربط الحوادث الكونيّة بالحركات الفلكيّة لا يوجب كفرا إلّا أن يرجع إلى إنكار اللّه- تعالى- أو التوحيد أو الرسالة أو ضروريّ من ضروريّات الدين.

(2) راجع القواعد و الفوائد و قد مرّ نقل كلامه بالتفصيل و بيانه و المناقشات فيه فراجع. «2»

(3) راجع جامع المقاصد و قد مرّ كلامه في أوّل المسألة و ناقشناه بأنّ كفر الاعتقاد بالمدخليّة بإطلاقه ممنوع. «3» كيف؟. و المدخليّة الطبيعيّة للشمس و القمر في بعض الحوادث كالأمطار أو رشد النبات و الحيوان و الإنسان ممّا لا ينكر كما هو واضح.

______________________________

(1) المنتهى 2/ 1014، كتاب التجارة.

(2) القواعد و الفوائد 2/ 35؛ و

راجع ص 22 من هذا الكتاب.

(3) جامع المقاصد 4/ 32، أقسام المتاجر، و راجع ص 21 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 48

و قال شيخنا البهائي: «ما زعمه المنجمون من ارتباط بعض الحوادث السفليّة بالأجرام العلويّة إن زعموا أنّها هي العلّة المؤثّرة في تلك الحوادث بالاستقلال أو أنّها شريكة في التأثير فهذا لا يحلّ للمسلم اعتقاده. و علم النجوم المبتنى على هذا كفر. و على هذا حمل ما ورد من التحذير عن علم النجوم و النهي عن اعتقاد صحّته.» انتهى (1)

و قال في البحار: «لا نزاع بين الأمّة في أنّ من اعتقد أنّ الكواكب هي المدبّرة لهذا العالم و هي الخالقة لما فيه من الحوادث و الخيرات و الشرور فإنّه يكون كافرا على الإطلاق.» انتهى. «1»

و عنه في موضع آخر: «إنّ القول بأنّها علّة فاعليّة بالإرادة و الاختيار- و إن توقّف تأثيرها على شرائط آخر- كفر.» انتهى. (2)

______________________________

(1) البحار و قد مرّ منا نقل كلامه بالتفصيل فراجع. «2»

(2) البحار و عبارته هكذا: «لا يخفى عليك أنّ القول باستقلال النجوم في تأثيرها بل القول بكونها علّة فاعليّة بالإرادة و الاختيار و إن توقّف تأثيرها على شرائط، كفر و مخالفة لضرورة الدين.» «3»

______________________________

(1) بحار الأنوار 56/ 299 (ط. ايران 59/ 299)، كتاب السماء و العالم، باب عصمة الملائكة ...

(2) بحار الأنوار 55/ 291 (ط. إيران 58/ 291)، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(3) بحار الأنوار 55/ 308، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم ...

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 49

بل ظاهر الوسائل نسبة دعوى ضرورة الدين على بطلان التنجيم و القول بكفر معتقده إلى جميع علمائنا حيث قال:

«قد صرّح علماؤنا بتحريم [تعلّم] علم النجوم و العمل به و بكفر من اعتقد تأثيرها أو مدخليّتها في التأثير، و ذكروا أنّ بطلان ذلك من ضروريّات الدين.»

انتهى. (1)

بل يظهر من المحكي عن ابن أبي الحديد: أنّ الحكم كذلك عند علماء العامّة أيضا حيث قال في شرح نهج البلاغة: «إنّ المعلوم ضرورة من الدين إبطال حكم النجوم و تحريم الاعتقاد بها و النهي و الزجر عن تصديق المنجّمين، و هذا معنى قول أمير المؤمنين عليه السّلام: فمن صدّقك بهذا فقد كذّب القرآن و استغنى عن الاستعانة باللّه.» انتهى. «1»

[رجوع الاعتقاد المذكور إلى إنكار الصانع أو تعطيله عن التصرّف]

ثمّ لا فرق في أكثر العبارات المذكورة بين رجوع الاعتقاد المذكور إلى إنكار الصانع- جلّ ذكره- كما هو مذهب بعض المنجّمين- و بين تعطيله- تعالى- عن التصرّف في الحوادث السفليّة بعد خلق الأجرام العلويّة على وجه تتحرّك على النحو المخصوص، سواء قيل بقدمها- كما

______________________________

(1) راجع الوسائل في هامش الباب 24 من أبواب ما يكتسب به. «2»

______________________________

(1) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 6/ 212.

(2) الوسائل 12/ 101، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 50

هو مذهب بعض آخر- أم قيل بحدوثها و تفويض التدبير إليها- كما هو المحكيّ عن ثالث منهم- و بين أن لا يرجع إلى شي ء من ذلك بأن يعتقد أنّ حركة الأفلاك تابعة لإرادة اللّه، فهي مظاهر لإرادة الخالق- تعالى- و مجبولة على الحركة على طبق اختيار الصانع- جلّ ذكره- كالآلة او بزيادة أنّها مختارة باختيار هو عين اختياره- تعالى- عمّا يقول الظالمون. (1)

______________________________

(1) احتمل المصنّف- كما ترى- في العبارات التي نقلها خمسة احتمالات. و لا يخفى أنّ مآل الأخيرين منها إلى الوجه الثاني و الثالث من الوجوه

الأربعة التي تصوّرها المصنّف للربط فراجع الوجهين الآتيين في كلامه. هذا.

و ظاهر كلامه تطرّق الاحتمالات الخمسة في العبارات المنقولة. و لكن بالتأمّل فيها يظهر أنّ مؤدّى أكثرها لا يتجاوز عن صورة اعتقاد التأثير إمّا مستقلا أو على وجه الجزئيّة في عرض الخالق، أو على وجه التفويض المطلق، و يشكل إرادتهم للصورتين الأخيرتين إذ التأثير بنحو الوساطة و الآليّة أمر يبتنى عليه نظام الوجود عندنا و لا يتوهّم كون الاعتقاد به كفرا سواء كانت بنحو الإرادة و الاختيار كسببيّة الإنسان لأفعاله الاختياريّة، أو بدون ذلك كسببيّة العلل الطبيعيّة لآثارها كالنار للإحراق مثلا فالعالم عالم الأسباب و المسبّبات و الأسباب عندنا مؤثّرات بلا إشكال، و الأدعية و الصدقات و التوجّهات الغيبيّة أيضا من جملتها، و اللّه- تعالى- من ورائها محيط. فهو علة العلل و مسبّب الأسباب، و الكلّ مسخّرات لأمره حدوثا و بقاء و يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب، و لا جبر و لا تفويض بل أمر بين الأمرين كما نصّ على ذلك أئمّتنا الهداة عليهم السّلام في قبال

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 51

لكن ظاهر ما تقدّم في بعض الأخبار- من أنّ المنجّم بمنزلة الكاهن الذي هو بمنزلة السّاحر الذي هو بمنزلة الكافر. (1)-: من عدا الفرق الثلاث الأول: إذ الظاهر عدم الإشكال في كون الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا بمنزلتهم.

و منه يظهر أنّ ما رتّبه عليه السّلام على تصديق المنجّم من كونه تكذيبا للقرآن و كونه موجبا للاستغناء عن الاستعانة باللّه في جلب الخير و دفع الشرّ يراد منه إبطال قوله بكونه مستلزما لما هو في الواقع مخالف للضرورة من كذب القرآن و للاستغناء عن اللّه- كما هو

طريقة كلّ مستدلّ-

______________________________

الأشاعرة القائلين بالجبر و المعتزلة القائلين بالتفويض. و لا فرق في ذلك كلّه بين النظام العلويّ و النظام السفليّ و العلل الاختياريّة و الطبيعيّة، و ليس الاعتقاد بذلك منافيا للتوحيد بل هو عين التوحيد فتدبّر. نعم لا دليل على كون جميع الحوادث في العالم السفليّ من آثار النظام العلويّ، و لو سلّم فالإحاطة بها لغير المعصومين عليهم السّلام ممنوعة. هذا. بل الاعتقاد بالتفويض المطلق أيضا لا يكون كفرا و إن كان باطلا، اللّهم إلّا مع الالتفات إلى كونه خلاف ضرورة الدين. كيف؟! و إلّا لزم الحكم بكفر المعتزلة القائلين بالتفويض في نظام الوجود و القائلين بعدم احتياج المعلول في بقائه إلى العلّة كما نسب إلى بعض المتكلّمين، فعدّ المصنّف الفرق الثلاث من أكفر الكفّار لا يمكن المساعدة عليه.

(1) راجع نهج البلاغة و قد مرّ نقله في المقام الثالث. «1»

______________________________

(1) راجع نهج البلاغة، فيض 1/ 177؛ عبده 1/ 124؛ لح/ 105، الخطبة 79.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 52

من إنهاء بطلان التالي إلى ما هو بديهي البطلان عقلا أو شرعا أو حسّا أو عادة (1) و لا يلزم من مجرّد ذلك الكفر. و إنّما يلزم ممّن التفت إلى الملازمة و اعترف باللازم. و إلّا فكلّ من أفتى بما هو مخالف لقول اللّه واقعا- إمّا لعدم تفطّنه لقول اللّه أو لدلالته- يكون مكذّبا للقرآن.

و أمّا قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من صدّق منجّما أو كاهنا فقد كفر بما أنزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.» (2) فلا يدلّ أيضا على كفر المنجّم و إنّما يدلّ على كذبه فيكون تصديقه تكذيبا للشارع المكذّب له. (3) و يدلّ عليه عطف

الكاهن عليه.

[لم يظهر من الروايات تكفير المنجّم]

و بالجملة فلم يظهر من الروايات تكفير المنجّم بالمعنى الذي تقدّم للتنجيم في صدر عنوان المسألة (4) كفرا حقيقيّا. فالواجب الرجوع

______________________________

(1) أراد أنّ كلامه عليه السّلام يرجع إلى قياس استثنائي مركّب من قضية شرطيّة و حمليّة تتضمّن رفع التالي فينتج رفع المقدّم و صورته هكذا: لو كان المنجّم صادقا في إسناد الحوادث إلى أوضاع النجوم لزم منه كذب القرآن و الاستغناء عن الاستعانة باللّه- تعالى- لكن التالي باطل فالمقدّم مثله.

(2) راجع الوسائل و قد مرّ في المقام الثالث نقله عن المعتبر. «1»

(3) قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «إذا كان تصديقه تكذيبا للشارع كان إخباره أيضا تكذيبا للشارع الحاكم بكذبه، و تكذيب الشارع كفر، إلّا أن يكون مراده الكذب المخبريّ لا الخبريّ.» «2»

(4) يعنى ما حكاه عن جامع المقاصد في تعريفه أعني: «الإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة.» و ليس في كلامه هذا

______________________________

(1) الوسائل 12/ 104، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 53

فيما يعتقده المنجّم إلى ملاحظة مطابقته لأحد [لإحدى] موجبات الكفر من إنكار الصانع أو غيره ممّا علم من الدين بديهة. و لعلّه لذا اقتصر الشهيد- فيما تقدّم من القواعد- في تكفير المنجّم، على من يعتقد في الكواكب أنّها مدبّرة لهذا العالم و موجدة له، و لم يكفّر غير هذا الصنف- كما سيجي ء تتمة كلامه السّابق- و لا شكّ أنّ هذا الاعتقاد إنكار إمّا للصانع، و إمّا لما هو ضروريّ الدين من فعله- تعالى- و هو إيجاد العالم و تدبيره (1)

______________________________

تعرّض للتأثير لا بنحو الاستقلال و لا بنحو المدخليّة. و لكن المصنّف ذكر

في المقام الثالث- كما مرّ-: «الإخبار عن الحادثات و الحكم بها مستندا إلى تأثير الاتصالات المذكورة فيها بالاستقلال أو بالمدخليّة.»، ثمّ قال: «و هو المصطلح عليه بالتنجيم، فظاهر الفتاوى و النصوص حرمته مؤكّدة.»، ثمّ ذكر النصوص المذكورة بعنوان الدليل. فكأنّه «ره» هنا نسي ما ذكره هناك و مشى عليه.

أقول: و قد مرّ منّا أنّ تعريف التنجيم- في كلامهما- بالإخبار لا يخلو من مسامحة، و لم يثبت لنا اصطلاح الفقهاء على ذلك. و الظاهر من اللفظ نفس استخراج الأحكام و ارتباط الحوادث الكونيّة بالأوضاع الفلكيّة. اللّهم إلّا أن يقال: إنّ نفس الاستخراج لا وجه لحرمته، بل هو بنفسه من مصاديق التدبّر و التفكّر في ملكوت السماء و الأرض و هو أمر مرغوب فيه موجب لمعرفة الحقّ- تعالى- و قدرته و إنّما المحرّم ترتيب الأثر القطعيّ على ذلك إمّا بالإخبار أو بالاعتقاد، فهذا يصير قرينة على إرادة أحدهما فتدبّر.

(1) لا يخفى أنّ الإسلام عبارة عن الشهادة بالتوحيد و برسالة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 54

بل الظاهر من كلام بعض اصطلاح لفظ التنجيم في الأوّل:

قال السيّد شارح النخبة: «إنّ المنجّم من يقول بقدم الأفلاك و النجوم، و لا يقولون بمفلّك و لا خالق، و هم فرقة من الطبعيين يستمطرون بالأنواء (1) معدودون من فرق الكفر في مسفورات الخاصّة و العامّة، يعتقدون في الإنسان أنّه كسائر الحيوانات يأكل و يشرب و ينكح ما دام حيّا، فإذا مات بطل و اضمحلّ، و ينكرون جميع الأصول الخمسة.» انتهى.

______________________________

التصديق بهما، و التصديق بالرسالة تتضمّن لا محالة التصديق بكلّ ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الكتاب

و السنة بسعتهما، فإن أنكر أحد واحدا ممّا جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع الالتفات إلى كونه ممّا جاء به و العلم بذلك فمآل ذلك إلى إنكار الرسالة ببعضها فيصير كافرا لذلك، و أمّا بدون الالتفات إلى ذلك فلا يحكم عليه بالكفر بعد ما أقرّ بالشهادتين و لا فرق في ذلك بين كون هذا الأمر من ضروريّات الدين أم لا، و لا دليل على كون إنكار الضروريّ بعنوانه من موجبات الكفر. نعم كون الشي ء ضروريّا أمارة غالبيّة على كون المنكر ملتفتا إلى كونه ممّا جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فإذا كان الشخص المنكر ممّن يحتمل في حقّه عدم الالتفات إلى ذلك فلا يحكم بكفره.

(1) في لسان العرب: «و النوء: النجم إذا مال للمغيب، و الجمع أنواء و نوءان حكاه ابن جنّي ... و قيل: معنى النوء: سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر و طلوع رقيبه- و هو نجم آخر يقابله- من ساعته في المشرق في كلّ ليلة إلى ثلاثة عشر يوما ... قال: و إنّما سمي نوءا، لأنّه إذا سقط الغارب ناء الطالع و ذلك الطلوع هو النوء، و بعضهم يجعل النوء السقوط، كأنّه من الأضداد ... و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 55

ثمّ قال «ره»: «و أمّا هؤلاء الذين يستخرجون بعض أوضاع السيّارات و ربّما يتخرّصون عليها بأحكام مبهمة متشابهة ينقلونها تقليدا لبعض ما وصل إليهم من كلمات الحكماء الأقدمين- مع صحّة عقائدهم الإسلاميّة- فغير معلوم دخولهم في المنجّمين الذين ورد فيهم من المطاعن ما ورد.» انتهى. (1)

______________________________

كانت العرب تضيف الأمطار و الرياح و الحرّ و البرد إلى السّاقط منها،

و قال الأصمعيّ: إلى الطالع منها في سلطانه فتقول: مطرنا بنوء كذا ... و في الحديث:

«ثلاث من أمر الجاهليّة: الطعن في الأنساب و النياحة و الأنواء.» قال أبو عبيد:

الأنواء ثمانية و عشرون نجما معروفة المطالع في أزمنة السنة كلّها من الصيف و الشتاء و الربيع و الخريف ... قال: و إنّما سمّي نوءا، لأنّه إذا سقط الساقط منها بالمغرب ناء الطالع بالمشرق ينوء نوءا أي نهض و طلع ... قال شمر: هذه الثمانية و عشرون التي أراد أبو عبيد هي منازل القمر و هي معروفة عند العرب و غيرهم من الفرس و الروم و الهند لم يختلفوا في أنّها ثمانية و عشرون ينزل القمر كلّ ليلة في منزلة منها، و منه قوله- تعالى-: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْنٰاهُ مَنٰازِلَ ... و قال الزجّاج في بعض أماليه و ذكر قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال: سقينا بالنجم فقد آمن بالنجم و كفر باللّه، و من قال: سقانا اللّه فقد آمن باللّه و كفر بالنجم.» قال: و معنى مطرنا بنوء كذا أي مطرنا بطلوع نجم و سقوط آخر الخ.» «1» و راجع في هذا المجال نهاية ابن الأثير و مجمع البحرين أيضا. «2»

(1) شرح النخبة للسيّد عبد اللّه حفيد السيّد نعمة اللّه الجزائري- رحمهما اللّه-.

______________________________

(1) لسان العرب 1/ 175- 177.

(2) النهاية لابن الأثير 5/ 122؛ مجمع البحرين 1/ 422.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 56

أقول: فيه- مضافا إلى عدم انحصار الكفّار من المنجّمين في من ذكر، بل هم على فرق ثلاث، كما أشرنا إليه و سيجي ء التصريح به من البحار في مسألة السّحر-: إنّ النزاع المشهور بين المسلمين في صحّة التنجيم و بطلانه

هو المعنى الذي ذكره أخيرا.- كما عرفت من جامع المقاصد- و المطاعن الواردة في الأخبار المتقدّمة و غيرها- كلّها أو جلّها- على هؤلاء دون المنجّم بالمعنى الذي ذكره أوّلا.

و ملخّص الكلام: أنّ ما ورد فيهم من المطاعن لا صراحة فيها بكفرهم، بل ظاهر ما عرفت خلافه. و يؤيّده ما رواه في البحار عن محمّد و هارون- ابني سهل النوبختي- أنّها كتبا إلى أبى عبد اللّه عليه السّلام:

«نحن ولد نوبخت المنجّم. و قد كنّا كتبنا إليك هل يحلّ النظر فيها؟.

فكتبت: نعم، و المنجّمون يختلفون في صفة الفلك: فبعضهم يقولون: إنّ الفلك فيه النجوم و الشمس و القمر- إلى أن قال-: فكتب عليه السّلام: نعم، ما لم يخرج من التوحيد.» (1)

______________________________

(1) البحار و تتمة الرواية بعد قوله: «و القمر» هكذا: «معلّق بالسماء و هو دون السماء، و هو الذي يدور بالنجوم و الشمس و القمر، و السماء فإنّها لا تتحرّك و لا تدور، و يقولون: دوران الفلك تحت الأرض و إنّ الشمس تدور مع الفلك تحت الأرض و تغيب في المغرب تحت الأرض و تطلع بالغداة من المشرق، فكتب عليه السّلام: «نعم ما لم يخرج من التوحيد.» قال المجلسي: بيان «معلّق بالسماء» أي الفلك معلّق بالسماء، و لعلّ مرادهم بالسّماء: الفلك التاسع، و بعدم حركتها: أنّها لا تتحرّك بالحركات الخاصّة للكواكب. و قولهم: «دوران

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 57

..........

______________________________

الفلك تحت الأرض» يحتمل الخاصّة و اليوميّة و الأعمّ. و غرضهم: أنّ الكواكب كما تتحرّك تبعا للأفلاك فوق الأرض فكذا تتحرّك تحتها. و قولهم: «و إنّ الشمس تدور مع الفلك» أي بالحركة اليوميّة، هذا ما خطر بالبال في تأويله. و ظاهره أنّ الأفلاك غير السماوات، و

لعلّه كان ذلك مذهبا لجماعة كما ذهب إليه الكراجكي حيث قال في كنز الفوائد:

«اعلم أنّ الأرض على هيئة الكرة» [و ذكر هيئة الأرض و الماء و الهواء و الأفلاك التسعة على النحو المشهور، ثم قال]:

«ثمّ السماوات السبع تحيط بالأفلاك، و هي مساكن الأملاك و من رفعه اللّه- تعالى- إلى سمائه من أنبيائه و حججه عليهم السّلام.» انتهى. و هذا قول غريب لم أر به قائلا غيره. و مخالفته لظاهر الآية أكثر من القول المشهور.

فكتب: «نعم» أي تحلّ النظر فيها. «ما لم يخرج من التوحيد» أي ما لم ينته إلى القول بتأثير الكواكب و أنّها شريكة في الخلق و التدبير للربّ سبحانه. و الظاهر أنّ المراد بالنظر في النجوم هنا علم الهيئة و التفكّر في كيفية دوران الكواكب و الأفلاك و قدر حركاتها و أشباه ذلك، لا استخراج الأحكام و الإخبار عن الحوادث.» انتهى كلام المجلسيّ في البحار. «1»

أقول: ما ذكره في مقام التأويل من حمل السّماء على الفلك التاسع و حمل عدم حركتها على عدم الحركة الخاصّة للكواكب بعيد جدّا مخالف للظاهر، إذ ظاهر الحديث كون الأفلاك غير السماء كما في كلام الكراجكي «ره».

و لعلّ المراد بالأفلاك: المدارات التي تدور فيها النجوم و الكواكب لا ما فرضه

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 250- 252 (ط. إيران، ج 58)، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 58

[الثانى: أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه- سبحانه- هو المؤثّر الأعظم]
اشارة

الثانى: أنّها تفعل الآثار المنسوبة إليها و اللّه- سبحانه- هو المؤثّر الأعظم كما يقوله بعضهم على ما ذكره العلّامة و غيره. (1)

______________________________

المشهور من الأجسام الكرويّة المحيطة بالأرض المركوز في ثخنها الشمس و القمر و النجوم، و المراد بالسّماء الفضاء و الجوّ

المحيط بالأرض و سائر الكرات، و المراد بتعلّقها بها كونها سابحات في هذا الجوّ. و إنّما فسّر المجلسي السّماء بالفلك التاسع لما رسخ في ذهنه من وجود الأفلاك التسعة و أنّ فوقها لا خلأ و لا ملأ من جهة اشتهار ذلك في المحيط العلميّ السابق. هذا.

و قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «ظاهر الرواية أو صريحها هو اختصاص المطاعن على المنجّمين بما إذا كان موجبا للخروج عن التوحيد مع عدم البأس في غيره فكان التنجيم بين مباح و بين كفر صريح فهي تشهد على صدق ما تقدّم من شارح النخبة.» «1»

(1) أقول: الظاهر من الوجه الثاني فاعليّة الأفلاك للحوادث بنحو الاختيار و لكن تحت مشية اللّه- تعالى- و من الوجه الثالث الآتي التأثير الطبيعيّ كتأثير النار في الإحراق فاحتمال إرادة الفاعليّة الاختياريّة و الاضطراريّة معا من الوجه الثاني بلا وجه.

و في حاشية الإيرواني «ره»: «الظاهر أنّ مراده من التأثير، التأثير على وجه الآليّة كان ذلك بالاختيار أو بالاضطرار. و صور التأثير بالاستقلال إمّا على وجه تمام المؤثّر أو على وجه جزء المؤثّر تندرج في القسم الأوّل، و إن كان ظاهر عنوان المصنّف هناك هو تمام المؤثّر فكان صورة التأثير على وجه الجزئيّة خارجا من هذا و

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 59

[كلمات العلماء في المقام]

قال العلّامة في محكيّ شرح فصّ الياقوت (1): «اختلف قول المنجّمين على قولين أحدهما: قول من يقول: إنّها حيّة مختارة.

الثاني: قول من يقول: إنّها موجبة، و القولان باطلان.»

______________________________

ذاك. و يحتمل أن يكون مراده من هذا الآليّة الاختياريّة كما يشهده بعض عبائره، و من القسم الثالث الآليّة القهرية و إن لم تساعده عبائره هناك لظهورها بل صراحتها

في التلازم الاتفاقي. لكن إفراد التلازم الاتّفاقي قسما برأسه صريح فيما قلناه.» «1»

أقول: مراده بالتلازم الاتفاقي كون الربط بنحو الكاشف و المكشوف المذكور في الوجه الرابع الآتي و التمثيل للوجه الثالث بالنار و الإحراق دليل على إرادة التأثير الطبيعي لا التلازم الاتفاقي و إن أوهم ما يأتي من القواعد من التعبير: «بأنّ اللّه أجرى عادته» عدم إرادة التأثير. و سيجي ء منّا المناقشة في ذلك.

(1) قال العلّامة في مقدّمة شرحه المسمّى: «أنوار الملكوت في شرح الياقوت»: «و قد صنّف شيخنا الأقدم و إمامنا الأعظم أبو إسحاق إبراهيم بن نوبخت «قده» مختصرا سمّاه الياقوت ...» و على هذا فكتاب العلّامة شرح للياقوت لا لفصّ الياقوت. و راجع في هذا المجال الذريعة إلى تصانيف الشيعة في لغة ياقوت «2». هذا.

و العلّامة بعد حكمه ببطلان القولين- كما في عبارة المصنّف- قال: «أمّا الأوّل فلأنّها أجسام محدثة فلا تكون آلهة، و لأنّها محتاجة إلى محدث غير جسم فلا بدّ من القول بالصانع. و أمّا الثاني فلأنّ الكواكب المعيّن (المعنى لها. خ) كالمريخ مثلا

______________________________

(1) نفس المصدر السابق/ 24.

(2) الذريعة إلى تصانيف الشيعة 25/ 271.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 60

[هل قائل هذا القول كافر أم لا؟]

و قد تقدّم عن المجلسي «ره» أنّ القول بكونها فاعلة بالإرادة و الاختيار- و إن توقّف تأثيرها على شرائط أخر- كفر.» (1) و هو ظاهر أكثر العبارات المتقدّمة. و لعلّ وجهه: أنّ نسبة الأفعال التي دلّت ضرورة الدين على استنادها إلى اللّه تعالى- كالخلق و الرزق و الإحياء و الإماتة و غيرها- إلى غيره- تعالى- مخالف لضرورة الدين.

لكن ظاهر شيخنا الشهيد- في القواعد- العدم، فإنّه بعد ما ذكر الكلام الذي نقلناه منه سابقا قال: «و إن اعتقد أنّها تفعل

الآثار المنسوبة إليها و اللّه- سبحانه- هو المؤثّر الأعظم فهو مخطئ، إذ لا حياة لهذه

______________________________

إذا كان مقتضيا للحرب لزم دوام وقوع الهرج و المرج في العالم و أن لا تستقر أفعالهم على حال من الأحوال و لمّا كان ذلك باطلا كان ما ذكروه باطلا.

و أمّا القائلون بالطبائع الذين يستندون الأفعال إلى مجرّد الطبيعة فيبطل قولهم بمثل ذلك أيضا فإنّ الطبيعة قوّة جسمانية و كلّ جسم محدث و كلّ قوّة حالّة فيه فهي محدثة تفتقر إلى محدث غير طبيعيّة و إلّا لزم التسلسل فلا بدّ من القول بالصانع- سبحانه و تعالى-» «1» و على هذا فكلام العلّامة مناسب لما مرّ من الوجه الأوّل و لا يرتبط بالوجه الثاني.

(1) في حاشية الإيرواني: «ظاهر المجلسي التأثير و لو بالتفويض من خالقها دون مجرّد الآليّة، و نحوه سائر ما تقدّمت من العبائر فصورة اعتقاد الآليّة حتى مع ثبوت الاختيار خارج عن مورد حكمهم بالكفر، نعم إذا اعتقد الملازمة على وجه لا يقبل التفكيك و لو بالدعاء و الصدقة يرجع ذلك إلى إنكار ضروريّ من

______________________________

(1) أنوار الملكوت/ 199، المسألة 16 من مبحث النبوّة في الردّ على المنجّمين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 61

الكواكب ثابتة بدليل عقليّ و لا نقلىّ.» انتهى. (1) و ظاهره أنّ عدم القول بذلك لعدم المقتضي له و هو الدليل لا لوجود المانع منه، و هو انعقاد الضرورة على خلافه، فهو ممكن غير معلوم الوقوع.

و لعلّ وجهه: أنّ الضروريّ عدم نسبة تلك الأفعال إلى فاعل مختار باختيار مستقلّ مغاير لاختيار اللّه- كما هو ظاهر قول المفوّضة- أمّا استنادها إلى الفاعل بإرادة اللّه المختار بعين مشيّته و اختياره حتى يكون كالآلة بزيادة الشعور و قيام الاختيار

به- بحيث يصدق أنّه فعله و فعل اللّه (2)- فلا؛ إذ المخالف للضرورة إنكار نسبة الفعل إلى اللّه- تعالى- على وجه الحقيقة. لا إثباته لغيره أيضا بحيث يصدق أنّه فعله.

______________________________

ضروريّات الدين.» «1»

(1) القواعد و الفوائد و قد مرّ نقل كلامه بتمامه مع توضيحه و شرحه. «2»

(2) لا بنحو المشاركة في الفعل و أن يكون كلّ منهما جزءا من العلّة، بل بنحو الطوليّة في الفاعليّة نظير فاعليّة الإنسان باختياره و مشيّته في طول فاعليّة اللّه- تعالى- لكلّ شي ء، فالإنسان- بوحدته- موجد لفعله بمشيّته، و هو و مشيّته و فعله كلّها من نظام الوجود المتقوّم بمشية اللّه- تعالى- حدوثا و بقاء.

قال اللّه- تعالى- في سورة التكوير: لِمَنْ شٰاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ* وَ مٰا تَشٰاؤُنَ إِلّٰا أَنْ يَشٰاءَ اللّٰهُ رَبُّ الْعٰالَمِينَ. «3»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

(2) القواعد و الفوائد 2/ 35؛ و راجع ص 22 من هذا الكتاب.

(3) سورة التكوير (81)، الآيتان 28 و 29.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 62

نعم ما ذكره الشهيد «ره» من عدم الدليل عليه حقّ، فالقول به تخرّص و نسبة فعل اللّه إلى غيره بلا دليل و هو قبيح.

و ما ذكره- قدّس سرّه- كان مأخذه ما في الاحتجاج عن هشام بن الحكم قال: سأل الزنديق أبا عبد اللّه عليه السّلام فقال: ما تقول في من يزعم أنّ هذا التدبير الذي يظهر في هذا العالم تدبير النجوم السبعة؟. قال عليه السّلام:

«يحتاجون إلى دليل أنّ هذا العالم الأكبر و العالم الأصغر من تدبير النجوم التي تسبح في الفلك و تدور حيث دارت متعبة لا تفتر و سائرة لا تقف.»- ثمّ قال: «و إنّ لكلّ نجم منها موكّل مدبّر، فهي بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين.

فلو كانت قديمة أزليّة لم تتغيّر من حال إلى حال ... الخبر.» (1)

______________________________

و قال: اللّٰهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهٰا وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنٰامِهٰا «1»

و قال: قُلْ يَتَوَفّٰاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ «2» فتارة أسند التوفّي إلى نفسه و أخرى إلى ملك الموت. و كلاهما صحيح، إذ ملك الموت متقوّم حدوثا و بقاء بمشيّة اللّه- تعالى-.

و من هذا القبيل أيضا قوله تعالى: وَ مٰا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لٰكِنَّ اللّٰهَ رَمىٰ. «3» و هذا هو الأمر بين الأمرين الذي نصّ عليه أئمّتنا عليهم السّلام كما مرّ.

(1) الاحتجاج «4» و قال الإيرواني «ره» في الحاشية: «ما في الاحتجاج

______________________________

(1) سورة الزمر (39)، الآية 42.

(2) سورة السجدة (32)، الآية 11.

(3) سورة الأنفال (8)، الآية 17.

(4) الاحتجاج/ 190 طبعة النجف (2/ 93)، و 2/ 240 طبعة قم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 63

و الظاهر أنّ قوله: «بمنزلة العبيد المأمورين المنهيّين» يعني في حركاتهم، لا أنّهم مأمورون بتدبير العالم بحركاتهم فهي مدبّرة باختيارها المنبعث عن أمر اللّه- تعالى-. (1)

نعم، ذكر المحدّث الكاشاني- في الوافي- في توجيه البداء كلاما ربّما يظهر منه مخالفة المشهور حيث قال: «فاعلم أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة، لعدم تناهي تلك الأمور بل إنّما تنقش فيها الحوادث شيئا فشيئا، فإنّ ما يحدث في عالم الكون و الفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك و نتائج بركاتها فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا.» (2) انتهى موضع الحاجة. و ظاهره أنّها فاعلة بالاختيار لملزومات الحوادث.

______________________________

صريح في آليّة الأنجم السبعة و قد نفى عنها التدبير بالاستقلال ردّا على من زعمه بعدم الدليل على الاستقلال فكان ذلك

دليلا على الآليّة التي أنكر الشهيد قيام الدليل عليها، بل في تشبيهها بالعبيد إيماء إلى ثبوت الاختيار لها في أفعالها. و في عبارة الشهيد إشعار بعدم إنكاره للآلية الاضطرارية حيث نفى الدليل على حياتها.» «1»

(1) الظاهر أنّ الجملة عطف على المنفي يعني ليس المراد أنّها مأمورة بتدبير العالم حتّى يكون تدبيرها له باختيارها المنبعث عن أمر اللّه- تعالى-.

(2) أقول: حيث إنّ المصنّف نقل كلام صاحب الوافي ناقصا غير واف ببيان مقصوده كان المناسب نقله وافيا فنقول: قال في شرح روايات باب البداء من

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 64

و بالجملة فكفر المعتقد بالربط على هذا الوجه الثاني لم يظهر من الأخبار، و مخالفته لضرورة الدين لم يثبت أيضا إذ ليس المراد العليّة التامّة كيف؟! و قد حاول المحدّث الكاشاني بهذه المقدّمات إثبات البداء.

______________________________

أصول الكافي المذكور في كتاب التوحيد منه: «فان قيل: كيف يصحّ نسبة البداء إلى اللّه- تعالى- مع إحاطة علمه بكلّ شي ء أزلا و أبدا على ما هو عليه في نفس الأمر و تقدّسه عمّا يوجب التغيّر و السنوح و نحوهما، فاعلم أنّ القوى المنطبعة الفلكيّة لم تحط بتفاصيل ما سيقع من الأمور دفعة واحدة لعدم تناهي تلك الأمور، بل إنّما ينتقش فيها الحوادث شيئا فشيئا و جملة فجملة مع أسبابها و عللها على نهج مستمرّ و نظام مستقرّ، فإنّ ما يحدث في عالم الكون و الفساد إنّما هو من لوازم حركات الأفلاك و نتائج بركاتها فهي تعلم أنّه كلّما كان كذا كان كذا، فمهما حصل لها العلم بأسباب حدوث أمر ما في هذا العالم حكمت بوقوعه فيه فينتقش فيها ذلك الحكم، و ربّما تأخّر بعض الأسباب

الموجب لوقوع الحادث على خلاف ما يوجبه بقيّة الأسباب لو لا ذلك السبب و لم يحصل لها العلم بذلك بعد، لعدم اطّلاعها على سبب ذلك السبب، ثمّ لمّا جاء أوانه و اطّلعت عليه حكمت بخلاف الحكم الأوّل فيمحى عنها نقش الحكم السابق و يثبت الحكم الآخر.

مثلا لمّا حصل لها العلم بموت زيد بمرض كذا في ليلة كذا لأسباب تقتضي ذلك و لم يحصل لها العلم بتصدّقه، الذي سيأتي به قبيل ذلك الوقت، لعدم اطلاعها على أسباب التصدّق بعد ثمّ علمت به و كان موته بتلك الأسباب مشروطا بأن لا يتصدّق فتحكم أوّلا بالموت و ثانيا بالبرء ... فهذا هو السبب في البداء و المحو و الإثبات و التردّد و أمثال ذلك في أمور العالم. و أمّا نسبة ذلك كلّه إلى اللّه-

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 65

..........

______________________________

تعالى- فلأنّ كلّ ما يجري في هذا العالم الملكوتي إنّما يجري بإرادة اللّه- تعالى-، بل فعلهم بعينه فعل اللّه- سبحانه- حيث إنّهم لٰا يَعْصُونَ اللّٰهَ مٰا أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ مٰا يُؤْمَرُونَ إذ لا داعي لهم على الفعل إلّا إرادة اللّه- عزّ و جلّ- لاستهلاك إرادتهم في إرادته- تعالى- ...» «1» انتهى ما أردنا نقله من كلامه.

أقول: هذا بالنسبة إلى حكم النفوس الفلكيّة، و أمّا بالنسبة إلى النفوس النبويّة، و الولويّة فلعلّه يقول إنّهم كانوا ربّما يرتبطون بالنفوس الفلكيّة فيشاهدون فيها ما انتقش من الأحكام فيخبرون بها ثمّ يتغير الحكم الأوّل بمثل الصدقة و الدعاء و نحوهما كما في قصّة إخبار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بموت اليهودي عن قريب ثمّ تبيّن نجاته بالتصدّق. «2» و للأستاذ الحكيم المتألّه آية اللّه الطباطبائي- قدّس سرّه- حاشية و

زينة في ذيل الصحيحة المرويّة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام من قوله: «ما عظّم اللّه بمثل البداء» من أراد الاطّلاع عليها فليراجع أصول الكافي. «3»

______________________________

(1) الوافي/ 112 من الجزء الأوّل، المطبوع سابقا.

(2) الكافي 4/ 5، كتاب الزكاة، باب الصدقة تدفع البلاء، الحديث 3.

(3) الكافي 1/ 146، كتاب التوحيد، باب البداء.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 66

[الثالث: استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النّار]

الثالث: استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النّار (1)

______________________________

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني في ذيل التمثيل بالنار و الإحراق قال: «يعني من باب التلازم الاتفاقي بلا تأثير و لا آلية.» «1» و فيه أيضا في ذيل ما سيجي ء من المصنّف من قوله: «ثمّ على تقديره فليس فيه دلالة ...» قال: «هذه العبارة إلى آخرها أجنبيّة عن المقام، إذ لم يكن الكلام في ثبوت التأثير و لو على نحو الآليّة، بل في التلازم و قد اعترف به في العبارة.» «2»

أقول: ما ذكره عجيب، إذ المفروض في الوجه الثالث ليس هو التلازم الاتّفاقي بل التأثير الطبيعيّ، و النار مقتضية للإحراق و مؤثّرة فيه حقيقة و إن لم يكن بنحو العلّيّة التامّة و ليس إسناده إليها مجازيّا، و هكذا الكلام في الأغذية و الأدوية و نحوهما.

و ما مرّ منّا في بيان الأمر بين الأمرين لا ينحصر في الفواعل الاختياريّة كالإنسان مثلا بل يجري في جميع المقتضيات و الفواعل حتى المؤثّرات الطبيعيّة. و المصنّف أيضا لا ينكر السببيّة و التأثير و لم يعترف بالتلازم الاتّفاقي.

نعم كلام الشهيد في القواعد يوهم ما عليه الأشاعرة من استناد جميع الآثار إلى اللّه- تعالى- حقيقة و أنّ الوسائط ليس بعلل و أسباب. بل هي موضوعات لأفعال اللّه- تعالى- و أنّه جرى عادته عل إيجاد الإحراق

مثلا عند وجود النار من دون تأثير لوجود النار في ذلك و لا سيّما إن كان المذكور في كلامه كلمة: «يفعل» مذكرا، لا كلمة: «تفعل»، و هذا مضافا إلى كونه مخالفا للوجدان مخالف لما نصّ عليه أئمّتنا عليهم السّلام من الأمر بين الأمرين فتدبّر.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

(2) نفس المصدر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 67

و ظاهر كلمات كثير ممّن تقدّم كون هذا الاعتقاد كفرا. (1) إلّا أنّه قال شيخنا المتقدّم في القواعد بعد الوجهين الأوّلين: «و أمّا ما يقال من استناد الأفعال إليها كاستناد الإحراق إلى النار و غيرها من العاديّات- بمعنى أنّ اللّه- تعالى- أجرى عادته أنّها إذا كانت على شكل مخصوص أو وضع مخصوص يفعل [تفعل- القواعد] ما ينسب إليها و يكون ربط المسبّبات بها كربط مسبّبات الأدوية و الأغذية بها مجازا باعتبار الربط العاديّ لا الربط العقليّ الحقيقيّ [لا الفعل الحقيقيّ- القواعد]- فهذا لا يكفر معتقده لكنّه مخطئ و إن كان أقلّ خطأ من الأوّل لأنّ وقوع هذه الآثار عندها ليس بدائم و لا أكثريّ.» «1» انتهى.

و غرضه من التعليل المذكور، الإشارة إلى عدم ثبوت الربط العاديّ لعدم ثبوته بالحسّ- كالحرارة الحاصلة بسبب النار و الشمس و برودة القمر- و لا بالعادة الدائمة و لا الغالبة لعدم العلم بتكرّر الدفعات كثيرا حتى يحصل العلم أو الظنّ.

ثمّ على تقديره فليس فيه دلالة على تأثير تلك الحركات في الحوادث فلعلّ الأمر بالعكس أو كلتاهما مستندتان إلى مؤثّر ثالث فتكونان من المتلازمين في الوجود.

______________________________

(1) حيث إنّهم حكموا بكون القول بالتأثير كفرا و لو على نحو المدخليّة.

______________________________

(1) القواعد و الفوائد 2/ 35.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 68

و بالجملة فمقتضى ما ورد

من أنّه: «أبى اللّه أن يجري الأشياء إلّا بأسبابها [إلّا بالأسباب- الكافي].» «1» كون كلّ حادث مسبّبا. و أمّا أنّ السبب هي الحركة الفلكيّة أو غيرها فلم يثبت، و لم يثبت أيضا كونه مخالفا لضرورة الدين.

بل في بعض الأخبار ما يدلّ بظاهره على ثبوت التأثير للكواكب مثل ما في الاحتجاج عن أبان بن تغلب- في حديث اليماني الذي دخل على أبي عبد اللّه عليه السّلام و سمّاه باسمه الذي لم يعلمه أحد، و هو سعد- فقال له: «يا سعد و ما صناعتك؟. قال: أنا أهل بيت ننظر في النجوم- إلى أن قال عليه السّلام-: ما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الإبل؟ قال:

لا أدري، قال: صدقت. قال: ما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت البقر؟. قال: لا أدري، قال: صدقت. فقال: ما اسم النجم الذي إذا طلع هاجت الكلاب؟. قال: لا أدري، قال: صدقت في قولك لا أدري، فما زحل عندكم في النجوم؟. فقال سعد: نجم نحس!. فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: لا تقل هذا، فانّه نجم أمير المؤمنين عليه السّلام و هو نجم الأوصياء، و هو النجم الثاقب الذي قال اللّه- تعالى- في كتابه.» (1)

______________________________

(1) راجع الاحتجاج «2» و الرواية مرسلة. و يمكن منع ظهورها في التأثير، إذ يكفي في صدق الشرط مجرّد الموافاة الوجوديّة بين الشرط و الجزاء.

______________________________

(1) الكافى 1/ 183، كتاب الحجة، باب معرفة الإمام و الرد إليه، الحديث 7.

(2) الاحتجاج/ 193 طبعة النجف (2/ 100)، و 2/ 250 طبعة قم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 69

و في رواية المدائني- المرويّة عن الكافي- عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّ اللّه خلق نجما في الفلك السّابع فخلقه من ماء بارد،

و خلق سائر النجوم الجاريات من ماء حارّ، و هو نجم الأنبياء و الأوصياء، و هو نجم أمير المؤمنين عليه السّلام يأمر بالخروج من الدنيا و الزهد فيها و يأمر بافتراش التراب و توسّد اللبن و لباس الخشن و أكل الجشب. و ما خلق اللّه نجما أقرب إلى اللّه تعالى منه.» (1)

و الظاهر أنّ أمر النجم بما ذكر من المحاسن كناية عن اقتضائه لها.

______________________________

(1) راجع الكافي «1» و في السند سهل بن زياد عن الحسن بن عليّ بن عثمان عن أبي عبد اللّه المدائني، و الأمر في سهل سهل و لكنّ الأخيرين مجهولان.

و استدلال المصنّف بهذه الرواية مبنيّ على ما استظهره من كون المراد بأمر النجم بما ذكر اقتضائه له تكوينا. و لكن المجلسي «ره» في مرآة العقول حمل الأمر فيها على معنى آخر فقال: «لعلّ المراد أنّ من ينسب إليه هكذا حاله، أو أنّ من كان هذا الكوكب طالع ولادته يكون كذلك، أو المنسوبون إلى هذا الكوكب يأمرون بذلك.» «2»

______________________________

(1) الكافي 8/ 257، كتاب الروضة، خطبة أمير المؤمنين «ع» بعد الجمل، الحديث 369.

(2) مرآة العقول 26/ 243، كتاب الروضة، باب إنّ اللّه يقبل التوبة ...، الحديث 369.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 70

[الرابع: أن يكون ربط الحركات بالحوادث من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف]
اشارة

الرابع: أن يكون ربط الحركات بالحوادث من قبيل ربط الكاشف بالمكشوف (1) و الظاهر أنّ هذا الاعتقاد لم يقل أحد بكونه كفرا.

[هذا الاعتقاد ليس بكفر]

قال شيخنا البهائي «ره»- بعد كلامه المتقدّم الظاهر في تكفير من قال بتأثير الكواكب أو مدخليّتها- ما هذا لفظه: «و إن قالوا: إنّ اتصالات تلك الأجرام و ما يعرض لها من الأوضاع علامات على بعض حوادث هذا العالم ممّا يوجده اللّه- سبحانه- بقدرته و إرادته، كما أنّ حركات النبض و اختلافات أوضاعه علامات يستدلّ بها الطبيب على ما يعرض للبدن من قرب الصحّة و اشتداد المرض و نحوه، و كما يستدلّ باختلاج بعض الأعضاء على بعض الأحوال المستقبلة، فهذا لا مانع منه و لا حرج في اعتقاده. و ما روي في صحّة علم النجوم و جواز تعلّمه محمول على هذا المعنى.» «1» انتهى.

______________________________

(1) في حاشية الإيرواني: «عدّ هذا قسما برأسه في غير محلّه فإنّ الربط بين الكاشف و المنكشف ليس إلّا التلازم الوجوديّ إمّا لعلاقة أو من باب الاتفاق و قد تقدّمت صورتا التأثير استقلالا و على وجه الآلية كما تقدّمت صورة التلازم الاتفاقيّ فلم يبق ما يكون رابع الأقسام.» «2»

أقول: قد مرّ منّا أنّ الوجه الثالث ليس هو التلازم الاتفاقيّ بل من قبيل التأثير الطبيعي كالنار في الإحراق فيكون الوجه الرابع مغايرا للوجوه الثلاثة الماضية.

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 291 (ط. بيروت)، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(2) حاشية المكاسب للمحقّ الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 71

و ممّا يظهر منه خروج هذا عن مورد طعن العلماء على المنجّمين ما تقدّم من قول العلّامة «ره»: «إنّ المنجّمين بين قائل بحياة الكواكب و كونها فاعلة مختارة، و بين

من قال: إنّها موجبة.» (1)

و يظهر ذلك من السيّد «ره» حيث قال- بعد إطالة الكلام في التشنيع عليهم- ما هذا لفظه المحكيّ: «و ما فيهم أحد يذهب إلى أنّ اللّه- تعالى- أجرى العادة بأن يفعل عند قرب بعضها من بعض أو بعده أفعلا من غير أن يكون للكواكب أنفسها تأثير في ذلك.» قال: «و من ادّعى منهم هذا المذهب الآن فهو قائل بخلاف ما ذهب إليه القدماء و متجمّل بهذا المذهب عند أهل الإسلام.» (2) انتهى.

لكن ظاهر المحكيّ عن ابن طاوس: إنكار السيّد «ره» لذلك أيضا حيث إنّه بعد ما ذكر أنّ للنجوم علامات و دلالات على الحادثات لكن يجوز للقادر الحكيم- تعالى- أن يغيرها بالبرّ و الصدقة و الدعاء، و غير ذلك من الأسباب و جوّز تعلّم علم النجوم و النظر فيه و العمل به إذا لم يعتقد أنّها مؤثّرة و حمل أخبار النهي على ما إذا اعتقد أنّها

______________________________

(1) راجع أنوار الملكوت و قد مرّ نقل كلامه. «1»

(2) راجع رسائل الشريف المرتضى «2» و هذه العبارة منه في أوّل مسألة التنجيم، لا بعد إطالة الكلام في التشنيع على المنجّمين.

______________________________

(1) أنوار الملكوت/ 199، المسألة 16 من مبحث النبوّة في الردّ على المنجّمين.

(2) رسائل الشريف المرتضى 2/ 302، مسألة في الردّ على المنجّمين.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 72

كذلك، أنكر على علم الهدى تحريم ذلك ثمّ ذكر لتأييد ذلك أسماء جماعة من الشيعة كانوا عارفين به.» انتهى. (1) و ما ذكره «ره» حقّ إلّا أنّ مجرّد كون النجوم دلالات و علامات لا يجدي مع عدم الإحاطة بتلك العلامات و معارضاتها و الحكم مع عدم الإحاطة لا يكون قطعيّا، بل و لا ظنيّا.

[ما ينكر على المنجّم أمران]

و السيّد علم

الهدى إنّما أنكر من المنجّم أمرين: أحدهما: اعتقاد التأثير و قد اعترف به ابن طاوس. و الثاني: غلبة الإصابة في أحكامهم- كما تقدّم منه ذلك في صدر المسألة (2)- و هذا أمر معلوم

______________________________

(1) أقول: قال ابن طاوس في فرج المهموم: «فصل: و من أعظم من يعتقد فيه أنّه ينكر دلالة النجوم على الحادثات من أصحابنا المتكلّمين- تغمّدهم اللّه بالرحمات- السيّد المرتضى- رضي اللّه عنه- و أبلغ ما وقفت عليه من كلماته في ذلك في جملة مسائل سأله عنها تلميذه سلّار «ره» و إذا اعتبر الناظر فيها ما ذكره في آخر جوابه عنها وجده يقول: إنّ اتصال الكواكب و انفصالها و تسييرها لها أصول صحيحة و قواعد سديدة، و هذا من أعظم الموافقة على ما ذكرناه من صحّة دلالة النجوم، و إنما ينكر- رحمه اللّه- أنّ النجوم فاعلة، و ذلك منكر و كفر كما دللنا على فساده، و منكر أن تكون النجوم مؤثّرة في أجسامنا و نحن على اعتقاده.» «1»

أقول: يظهر من هذا الفصل أنّ السيّد لا يعتقد في حقّ السيّد أنّه ينكر دلالة النجوم على الحادثات بنحو الإطلاق.

(2) راجع ما حكاه عنه المصنّف في المقام الأوّل و رسائل الشريف

______________________________

(1) فرج المهموم/ 41.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 73

بعد فرض عدم الإحاطة بالعلامات و معارضاتها.

و لقد أجاد شيخنا البهائي أيضا حيث أنكر الأمرين و قال- بعد كلامه المتقدّم في إنكار التأثير و الاعتراف بالأمارة و العلامة-: «اعلم أنّ الأمور التي يحكم بها المنجّمون من الحوادث الاستقباليّة أصول:

بعضها مأخوذة من أصحاب الوحي- سلام اللّه عليهم-، و بعضها يدّعون لها التجربة، و بعضها مبتن على أمور متشعبة لا تفي القوة البشرية بضبطها و الإحاطة بها كما

يؤمي إليه قول الصادق عليه السّلام: «كثيره لا يدرك و قليله لا ينتج.» (1) و لذلك وجد الاختلاف في كلامهم و تطرق الخطأ إلى بعض أحكامهم، و من اتّفق له الجري على الأصول الصحيحة صحّ كلامه و صدقت أحكامه لا محالة كما نطق به الصادق عليه السّلام و لكن هذا أمر عزيز المنال لا يظفر به إلّا القليل، و اللّه الهادي إلى سواء السبيل.» «1» انتهى.

______________________________

المرتضى. «2»

(1) راجع الوسائل في رواية عبد الرحمن بن سيّابة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«إنّكم تنظرون في شي ء منها كثيره لا يدرك و قليله لا ينتفع به.» «3»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 292، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(2) رسائل الشريف المرتضى 2/ 311.

(3) الوسائل 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 74

و ما أفاده «ره» أوّلا من الاعتراف بعدم بطلان كون الحركات الفلكيّة أمارات و علامات، و آخرا من عدم النفع في علم النجوم إلّا مع الإحاطة التامّة، هو الذي صرّح به الصادق عليه السّلام في رواية هشام الآتية بقوله عليه السّلام: «إنّ أصل الحساب حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق.» «1»

و يدلّ أيضا على كلّ من الأمرين الأخبار المتكثّرة. فما يدلّ على الأوّل و هو ثبوت الدلالة و العلامة في الجملة- مضافا إلى ما تقدّم من رواية سعد المنجّم المحمولة بعد الصرف عن ظاهرها الدالّ على سببيّة طلوع الكواكب لهيجان الإبل و البقر و الكلاب، على كونه أمارة و علامة عليه (1)- المرويّ في الاحتجاج عن [من. ظ] رواية الدهقان المنجّم الذي استقبل أمير المؤمنين عليه السّلام حين

خروجه إلى نهروان فقال له عليه السّلام: يومك هذا يوم صعب قد انقلب منه كوكب [قد اتصلت فيه كوكبان. الاحتجاج] و انقدح من برجك النيران و ليس لك الحرب بمكان، فقال عليه السّلام له: «أيّها الدهقان المنبئ عن الآثار المحذّر عن الأقدار.»

______________________________

(1) في حاشية المحقّق الإيرواني: «بل القضيّة الشرطيّة غير ظاهرة في ثبوت التأثير بين طرفيها، و إنّما تؤدي التلازم الوجوديّ بين المقدّم و التالي بالأعمّ ممّا كان لعلاقة لزوميّة أو من باب محض الاتفاق.» «2»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) حاشية المحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 75

ثمّ سأله عن مسائل كثيرة من النجوم فاعترف الدهقان بجهلها- إلى أن قال عليه السّلام له-: «أمّا قولك: انقدح من برجك النيران فكان الواجب أن تحكم به لي لا عليّ، أمّا نوره و ضياؤه فعندي، و أمّا حريقه و لهبه فذهب عنّي فهذه مسألة عميقة فاحسبها إن كنت حاسبا.» «1» و في رواية أخرى: أنّه عليه السّلام قال له: «احسبها إن كنت عالما بالأكوار و الأدوار، قال:

لو علمت هذا لعلمت أنّك تحصي عقود القصب في هذه الأجمة.» «2»

و في الرواية الآتية لعبد الرحمن بن سيّابة: «هذا حساب إذا حسبه الرجل و وقف عليه عرف القصبة التي في وسط الأجمة و عدد ما عن يمينها، و عدد ما عن يسارها، و عدد ما خلفها، و عدد ما أمامها حتى لا يخفى عليه شي ء من قصب الأجمة.» «3»

[سابقة النجوم و أصله]

و في البحار: وجد في كتاب عتيق عن عطاء قال: قيل لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: هل كان للنجوم أصل؟. قال عليه السّلام: «نعم نبيّ من الأنبياء قال له قومه:

إنّا لا نؤمن بك حتّى تعلّمنا بدأ الخلق و آجالهم، فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- إلى غمامة فأمطرتهم (و استنقع حول الجبل) ماء صاف ثمّ أوحى اللّه إلى الشمس و القمر و النجوم أن تجري في ذلك الماء. ثمّ أوحى اللّه إلى ذلك النبيّ أن يرتقي هو و قومه على الجبل فارتقوا الجبل فقاموا على الماء حتّى عرفوا بدأ الخلق و آجالهم بمجاري الشمس و القمر و النجوم و ساعات الليل و النهار، و كان أحدهم يعرف متى يموت و

______________________________

(1) راجع الاحتجاج/ 125 طبعة النجف (1/ 355)، و 1/ 558 طبعة قم.

(2) راجع فرج المهموم 104؛ و بحار الأنوار 55/ 231، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

(3) راجع الكافي 8/ 195، كتاب الروضة، الحديث 233.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 3، ص: 76

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 76

متى يمرض و من ذا الذي يولد له، و من ذا الذي لا يولد له فبقوا كذلك برهة من دهرهم.

ثمّ إن داود عليه السّلام قاتلهم على الكفر فأخرجوا إلى داود عليه السّلام في القتال من لم يحضر أجله، و من حضر أجله خلّفوه في بيوتهم فكان يقتل من أصحاب داود و لا يقتل من هؤلاء أحد. فقال داود: ربّ أقاتل على طاعتك و يقاتل هؤلاء على معصيتك يقتل أصحابي و لا يقتل من هؤلاء أحد. فأوحى اللّه- عزّ و جلّ- إليه: إني علّمتهم بدء الخلق و آجاله، و إنّما أخرجوا إليك من لم يحضره أجله، و من حضر أجله خلّفوه في بيوتهم: فمن ثمّ يقتل

أصحابك و لا يقتل منهم أحد. قال داود عليه السّلام:

ربّ على ما ذا علّمتهم؟ .. قال على مجاري الشمس و القمر و النجوم و ساعات الليل و النهار. قال: فدعا اللّه- عزّ و جلّ- فحبس الشمس عليهم فزاد النهار و اختلطت الزيادة بالليل و النهار فلم يعرفوا قدر الزيادة فاختلط حسابهم. قال عليّ عليه السّلام: فمن ثمّ كره النظر في علم النجوم.» (1)

______________________________

(1) راجع البحار نقلا عن النجوم و أراد به فرج المهموم لابن طاوس. قال المجلسي في مقام البيان: «أن تجري في ذلك الماء» يمكن أن يكون المراد جريان عكس الكواكب فيها فيكون الماء كالزيج لهم لاستعلام مقدار الحركات، أو خلق اللّه للكواكب أمثالا فأجراها في الماء على قدر حركة أصلها في السماء أو صغّرها و أنزلها و أجراها فيه.» «1»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 236 و 237، كتاب السماء و العالم، باب علم النجوم و العمل به.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 77

و في البحار أيضا عن الكافي بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سئل عن النجوم، فقال: «لا يعلمها إلّا أهل بيت من العرب و أهل بيت من الهند.» «1» و بالإسناد عن محمد بن سالم قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام:

«قوم يقولون: النجوم أصحّ من الرؤيا و كان ذلك صحيحا حين لم يرد الشمس على يوشع بن نون و امير المؤمنين عليه السّلام فلمّا ردّ اللّه الشمس عليهما ضلّ فيها علماء النجوم.» (1)

و خبر يونس قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام جعلت فداك أخبرني عن علم النجوم ما هو.؟ قال: علم من علوم الأنبياء.» قال: فقلت: كان

______________________________

أقول: الظاهر هو الاحتمال الأوّل و يبعد الأخيران.

(1) راجع البحار و

فرج المهموم «2» و ظاهر عبارة المصنّف أنّ هذه الرواية كسابقتها رواها في البحار عن الكافي، و ليس كذلك بل رواها عن فرج المهموم و هو رواها عن الكليني في كتاب تفسير الرؤيا. و الراوي في البحار محمد بن سام و في فرج المهموم محمد بن غانم.

و في حاشية الإيرواني في ذيل قوله: «و كان ذلك صحيحا حين لم يردّ الشمس» قال: «هذا لا ينافي ما تقدّم من اختلاط الحساب في زمان داود عليه السّلام بدعائه، فلعلّ المطابقة التامّة و الإصابة الدائميّة سلبت في زمانه و بقيت مطابقة غالبيّة فسلبت هذه أيضا عند ردّ الشمس على يوشع و على مولانا أمير المؤمنين عليه السّلام فصارت الإصابة نادرة.» «3»

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 243؛ الوسائل 12/ 103، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(2) بحار الأنوار 55/ 242؛ فرج المهموم/ 87.

(3) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 78

علي بن أبي طالب عليه السّلام يعلمه؟ قال: «كان أعلم الناس به ... الخبر» (1)

و خبر الريّان بن الصلت قال: حضر عند أبي الحسن الرضا عليه السّلام الصباح بن نصر الهندي و سأله عن علم النجوم فقال عليه السّلام: «هو علم في أصله حقّ [هو علم في أصل صحيح. البحار] و ذكروا أنّ أوّل من تكلّم به إدريس عليه السّلام و كان ذو القرنين به ماهرا، و أصل هذا العلم من اللّه- عزّ و جلّ-.» (2)

و عن معلّى بن خنيس قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن النجوم أحقّ هي.؟ فقال: «نعم، إنّ اللّه- عزّ و جلّ- بعث المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأتى رجلا من العجم فعلّمه (3) فلم يستكلموا

ذلك فأتى

______________________________

أقول: يظهر من كلامه أنّ داود عليه السّلام كان قبل يوشع، مع وضوح أنّ يوشع كان وصيّا بلا فصل لموسى عليه السّلام و داود كان متأخّرا عنه بكثير.

(1) راجع البحار و فرج المهموم «1» و الظاهر زيادة لفظ الخبر في آخر الحديث، إذ هو مذكور في المتن بتمامه.

(2) راجع البحار و فرج المهموم، و في فرج المهموم: «الصباح بن النضر الهندى». «2»

(3) إلى هنا رواية المعلّى نعم لها ذيل لم ينقله المصنّف فراجع الكافي و الوسائل «3» و أمّا من قوله: «فلم يستكملوا» فمن رواية الريّان، ففيها بعد العبارة

______________________________

(1) بحار الأنوار 55/ 235؛ فرج المهموم/ 23.

(2) بحار الأنوار 55/ 245؛ فرج المهموم/ 94.

(3) الكافي 8/ 330 كتاب الروضة، الحديث 507؛ و الوسائل 12/ 102، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 79

بلد الهند فعلّم رجلا منهم. فمن هناك صار علم النجوم بها، و قد قال قوم: هو علم من علوم الأنبياء خصّوا به لأسباب شتّى فلم يستدرك المنجّمون الدقيق منها، فشاب الحقّ بالكذب.» إلى غير ذلك ممّا يدلّ على صحّة علم النجوم في نفسه. (1)

[ما دلّ على كثرة الخطأ و الغلط في حساب المنجّمين]

و أمّا ما دلّ على كثرة الخطأ و الغلط في حساب المنجّمين فهي كثيرة:

منها: ما تقدّم في الروايات السّابقة: مثل قوله عليه السّلام في الرواية الأخيرة: «فشاب الحقّ بالكذب».

و قوله عليه السّلام: «ضلّ فيها علماء النجوم.» (2)

______________________________

السّابقة: «و يقال: إنّ اللّه- تعالى- بعث النجم الذي هو المشتري إلى الأرض في صورة رجل فأتى بلد العجم فعلّمهم- في حديث طويل- فلم يستكملوا ذلك فأتى بلد الهند ...» فالمصنّف خلط بين الروايتين.

و في حاشية الإيرواني في ذيل: «إنّ اللّه بعث المشتري» قال:

«هذا لا ينافي ما تقدّم في كيفيّة التعليم فلعلّ التعليم، وقع في وقائع متعدّدة لطوائف متعدّدين.» «1»

(1) في تفسير العيّاشي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ اللّه تبارك و تعالى خلق روح القدس فلم يخلق خلقا أقرب إلى اللّه منها و ليست بأكرم خلقه عليه فإذا أراد أمرا ألقاه إليها فألقاه إلى النجوم فجرت به.» «2»

(2) راجع ما مرّ من رواية محمّد بن سالم آنفا. «3»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 24.

(2) تفسير العياشي 2/ 270، في تفسير سورة النحل، الحديث 70.

(3) بحار الأنوار 55/ 242؛ و راجع ص 77 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 80

و قوله عليه السّلام- في تخطئة ما ادّعاه المنجّم من أنّ زحل عندنا كوكب نحس: «أنّه كوكب أمير المؤمنين و الأوصياء عليهم السّلام.» (1)

و تخطئة أمير المؤمنين عليه السّلام للدهقان الذي حكم بالنجوم بنحوسة اليوم الذي خرج فيه أمير المؤمنين عليه السّلام.» (2)

و منها: خبر عبد الرحمن بن سيّابة قال: قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

جعلت فداك إنّ الناس يقولون: إنّ النجوم لا يحلّ النظر فيها و هي تعجبني، فإن كانت تضرّ بديني فلا حاجة لي في شي ء يضرّ بديني، و إن كانت لا تضرّ بديني فو اللّه إنّي لأشتهيها و أشتهي النظر فيها؟.

فقال عليه السّلام: «ليس كما يقولون، لا تضرّ بدينك.» ثمّ قال عليه السّلام: «إنّكم تنظرون في شي ء كثيره لا يدرك و قليله لا ينفع ... الخبر» «1»

و منها: خبر هشام قال: قال لي أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كيف بصرك بالنجوم؟» قلت: ما خلفت بالعراق أبصر بالنجوم منّي. ثم سأله عن أشياء لم يعرفها، ثمّ قال عليه السّلام: «ما بال العسكرين يلتقيان

في هذا حاسب و في ذلك حاسب فيحسب هذا لصاحبه بالظفر و يحسب هذا لصاحبه بالظفر فليتقيان فيهزم أحدهما الآخر فأين كانت النجوم؟.»

______________________________

(1) راجع ما مرّ من رواية سعد اليماني المروية عن الاحتجاج. «2»

(2) راجع ما مرّ من رواية الدهقان المروية عن الاحتجاج. «3»

______________________________

(1) الوسائل 12/ 101، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) راجع ص 68 من هذا الكتاب.

(3) راجع ص 74 من هذا الكتاب.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 81

قال فقلت: (لا) و اللّه ما أعلم ذلك قال: فقال عليه السّلام: «صدقت، إنّ أصل الحساب حقّ و لكن لا يعلم ذلك إلّا من علم مواليد الخلق كلّهم.» «1»

و منها: المرويّ في الاحتجاج عن أبي عبد اللّه عليه السّلام- في حديث-: إنّ زنديقا قال له: ما تقول في علم النجوم؟ قال عليه السّلام: «هو علم قلّت منافعه و كثرت مضارّه (لأنّه) لا يدفع به المقدور و لا يتّقى به المحذور، إن خبّر المنجّم بالبلاء لم ينجه التحرّز عن القضاء، و إن خبّر هو بخير لم يستطع تعجيله، و إن حدث به سوء لم يمكنه صرفه، و المنجّم يضادّ اللّه في علمه بزعمه أنّه يردّ قضاء اللّه عن خلقه ... الخبر» (1)

إلى غير ذلك من الأخبار الدالّة على أنّ ما وصل إليه المنجّمون أقلّ قليل من أمارات الحوادث من دون وصول إلى معارضاتها. و من تتبّع هذه الأخبار لم يحصل له ظنّ بالأحكام المستخرجة عنها فضلا عن القطع.

______________________________

(1) راجع الوسائل رواه عن الاحتجاج. «2»

و قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «المحصّل من مجموع الأحاديث و جهان لعدم الفائدة في تعلّم علم النجوم: أحدهما: كثرة الخطأ فيما هو في أيدي المنجمين من الحساب.

الثاني: أنّه لا يؤثّر إلّا الألم و الحزن لما يرى في الطالع من الشرّ. و أمّا الدعاء و الصدقة لدفعه فهو لا يتوقّف على معرفة تفاصيل

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث.

(2) الوسائل 12/ 104، الباب 24 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10؛ الاحتجاج/ 191 طبعة النجف (2/ 95)، و 2/ 242 طبعة قم.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 82

[الحكم على ما يحصل بالتجربة]

نعم قد يحصل من التجربة المنقولة خلفا عن سلف الظنّ- بل العلم- بمقارنة حادث من الحوادث لبعض الأوضاع الفلكيّة. فالأولى التجنّب عن الحكم بها و مع الارتكاب فالأولى الحكم على سبيل التقريب و أنّه لا يبعد أن يقع كذا عند كذا، و اللّه المسدّد.

______________________________

مقتضيات الكواكب، بل يدعو اللّه- تعالى- على كلّ حال لدفع قضاء السوء. و لعلّ حكمة النهي عن النظر دوام المواظبة على الدعاء و التصدّق لكون الإنسان دائما بين الخوف و الرجاء بخلاف ما لو نظر إلى الطالع فرآه خيرا فإنّه يستريح إلى ما يراه و لا يدعو و لا يتصدّق، فلعلّ لنفس المواظبة مدخلا تامّا في دفع الشرور.» «1»

أقول: مقتضى رواية عبد الرحمن بن سيّابة الماضية جواز النظر في النجوم و عدم النهي عنه.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 83

فذلكة البحث:

______________________________

قد فسّر المصنّف التنجيم- كما مرّ تبعا لجامع المقاصد- بالإخبار عن أحكام النجوم باعتبار الحركات الفلكيّة و الاتصالات الكوكبيّة.

ثمّ تعرّض لأربع مسائل في أربعة مقامات:

الأوّل: جواز الإخبار بحركات الكواكب و أوضاعها و اتصالاتها المبحوث عنها في علم الهيئة إمّا بنحو الجزم إن استند إلى البرهان أو ظنّا إن استند إلى الأمارات المفيدة له.

الثاني: جواز الإخبار بحدوث الحوادث السفليّة عند تحقّق الاتصالات و الحركات المذكورة ظنّا بل بنحو الجزم أيضا إن استند إلى تجربة قطعيّة من دون اعتقاد ربط سببيّ بينهما لا بنحو الاقتضاء و لا بنحو العليّة التامّة بل بنحو الموافاة الوجوديّة فقط.

الثالث: حرمة الإخبار عن الحادثات و الحكم بها باعتقاد تأثير الاتصالات المذكورة فيها مستقلا أو بنحو المدخليّة، قال: «و هو المصطلح عليه بالتنجيم.»

الرابع: اعتقاد ربط الحركات الفلكيّة بالحوادث السفليّة.

ثمّ قسّم الربط المذكور إلى

أربعة أقسام كما مرّ بيانه. فيكون المبحوث عنه في المقامات الثلاث الأول جواز الإخبار و عدمه و هو بحث فقهيّ. و في المقام الرابع بحث اعتقاديّ و أنّ أيّ قسم من أقسام الربط يكون الاعتقاد به كفرا موجبا للخروج من الدين، و أيّ قسم منها لا يكون كفرا و إن أمكن كونه خطأ أو دعوى بلا دليل. هذا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 84

..........

______________________________

و نحن ناقشنا أوّلا بأنّ التنجيم ليس هو الإخبار بل نفس استخراجات المنجّم.

و ثانيا بمنع كون المصطلح عليه خصوص صورة اعتقاد التأثير إلّا أن يراد بيان موضوع الحرمة عندهم.

و ثالثا بمنع كون مطلق الاعتقاد بالمدخليّة كفرا أو باطلا، بل أصل التأثير الطبيعيّ إجمالا ممّا لا ريب فيه كتأثير نور النّيرين في نزول الأمطار و نموّ الأشجار و النباتات و سلامة الحيوان و الإنسان و نحو ذلك.

و رابعا بمنع حمل النهي على خصوص ما إذا اعتقد التأثير.

و بعبارة أخرى: أنّ روايات النهي ليست ناظرة إلى بيان أمر اعتقاديّ و أنّ الاعتقاد بتأثير العلويّات كفرأ و خطأ، و ليست ناظرة أيضا إلى نفي التأثير مطلقا و لو بنحو الاقتضاء الطبيعيّ. بل الظاهر أنّها بصدد النهي عن تنظيم النشاطات اليوميّة و الاجتماعيّة على أساس آراء المنجّمين بلا توجّه إلى اللّه- تعالى- و الاستعانة منه و التوسّل إليه بالدعاء و التصدّق. إذ المؤثّر في العالم هو اللّه- تعالى- و نظام الوجود بعلويّاته و سفليّاته قائمة به حدوثا و بقاء و مسخّرة لأمره يمحو ما يشاء و يثبت و عنده أمّ الكتاب فيجب التوجّه إليه و الاستعانة منه و التوكّل عليه. و هذا لا ينافي وجود نحو ارتباط بين العلويّات و الحوادث السفليّة إمّا بنحو التقارن

الوجوديّ أو بنحو الاقتضاء الطبيعيّ نظير سائر العلل الطبيعيّة. و إن كانت الإحاطة بجزئيّاتها خارجة عن حيطة علمنا و قدرتنا. هذا.

و المبحوث عنه تارة حكم نفس الاستخراجات. و ثانيا حكم الإخبار بها و ترتيب الأثر عليه عملا. و ثالثا حكم الاعتقاد بمؤثّريّتها.

فالأوّل، لا دليل على حرمته بل لعلّه يكون مرغوبا فيه إن أوجب تقوية الاعتقادات الدينية و التوجّه إلى قدرة اللّه و عظمته و حكمته.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 85

..........

______________________________

و الثاني، أعني الإخبار أيضا لا مانع منه في نفسه جزما إن استند إلى برهان أو ظنا إن استند إلى الأمارات المفيدة له.

نعم لا يجوز ترتيب الأثر القطعيّ عليه و تصديقه عملا بأن يجعل أساس نشاطاته إخبار المنجّمين و يعرض بالكليّة عن التوجّه إلى اللّه- تعالى- و الاستعانة منه، و إن فرض أنّ المنجّم لم يخبر إلّا عن مجرّد التقارن الوجودي.

و الثالث، أيضا جائز إن استند إلى برهان قطعيّ و لم يرجع إلى إنكار الصانع أو توحيده أو سعة قدرته أو إنكار النبوّة أو ضروريّ من ضروريّات الدين بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار البنوّة و لو ببعضها، فتدبّر و اللّه العالم بحقائق الأمور.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 87

[المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال]

اشارة

المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال حرام في الجملة بلا خلاف، كما في التذكرة و عن المنتهى. (1)

______________________________

المسألة السابعة: حفظ كتب الضلال

(1) قال السيّد في الحاشية: «لا يخفى أنّ مقتضى الوجوه المذكورة وجوب تفويت جميع ما يكون موجبا للضلال، و لا خصوصيّة للكتب في ذلك فيحرم حفظ غيرها أيضا ممّا من شأنه الإضلال كالمزار و المقبرة و المدرسة و نحو ذلك فكان الأولى تعميم العنوان و لعلّ غرضهم المثال لكون الكتب من الأفراد الغالبة لهذا

العنوان. نعم يمكن الاستدلال على الخصوصيّة برواية الحذّاء: «من علّم باب ضلال كان عليه مثل وزر من عمل به.» «1»

و قال المحقّق الإيرواني: «مقتضى دليله وجوب العمد إلى إتلاف كتب الضلال فيكون المراد من الحفظ عدم التعرّض للإتلاف، لكنّه بعيد من العبارة. و يحتمل أن يكون المراد من الحفظ إثبات اليد عليها و اقتناؤها. و ثالث الاحتمالات الذي هو ظاهر لفظ الحفظ، حفظه عن التلف فيختصّ بما إذا كان في عرضة التلف و متوجّها إليه غرق أو حرق فيحفظه عن ذلك ... لكن الأدلّة إن تمّت قضت بوجوب

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 23.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 88

..........

______________________________

الإتلاف و العمد إلى المحو و الإعدام في أيّة مكتبة كانت.» «1» هذا.

نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة

و الأولى نقل بعض كلمات الأصحاب في المسألة ليكون القارئ على بصيرة.

1- قال في مكاسب المقنعة: «و الأجر على كتب المصاحف و جميع علوم الدين و الدنيا جائز، و لا يحلّ كتب الكفر و تجليد الصحف إلّا لإثبات الحجج في فساده. و التكسّب بحفظ كتب الضلال و كتبه على غير ما ذكرناه حرام.» «2»

2- و في النهاية: «و التكسّب بحفظ كتب الضلال و نسخه حرام محظور.» «3» و يأتي في المتن كلامه في المبسوط.

أقول: دلالة كلامهما على حرمة نفس الحفظ من جهة أنّه لا وجه لحرمة التكسّب بالفعل إلّا حرمة نفسه كما هو ظاهر.

3- و في الشرائع في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض.» «4»

4- و في المنتهي: «و يحرم حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض و الحجّة عليهم بلا خلاف، و كذا يحرم نسخ التوراة و الإنجيل و تعليمهما و أخذ الأجرة على ذلك

كلّه، لأنّ في ذلك مساعدة على الحقّ و تقوية الباطل و لا خلاف فيه.» «5»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

(2) المقنعة/ 588.

(3) النهاية لشيخ الطائفة/ 356.

(4) الشرائع/ 264، كتاب التجارة.

(5) المنتهى 2/ 1013، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 89

..........

______________________________

و ذكر نحو ذلك في التذكرة أيضا فراجع «1»، فالعلّامة في الكتابين ادّعى عدم الخلاف في المسألة. و ذكر النقض في مقام الاستثناء من باب المثال، فالظاهر أنّ مرادهم جواز الحفظ لكلّ مصلحة عقلائيّة شرعيّة أهمّ من احتمال الفساد في إبقائها.

5- و في مجمع الفائدة و البرهان في ذيل قول المصنّف: «و حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض و الحجّة.» قال: «من المحرّم حفظ كتب الضلال، كأنّ المراد أعمّ من حفظها عن التلف أو على الصّدر، و الأوّل أظهر. و كأنّ نسخها أيضا كذلك بل هو أولى. و لعلّ المراد بها أعمّ من كتب الأديان المنسوخة و الكتب المخالفة للحقّ أصولا و فروعا و الأحاديث المعلوم كونها موضوعة، لا الأحاديث التي رواها الضعفاء لمذهبهم و لفسقهم مع احتمال الصدور فحينئذ يجوز حفظ الصّحاح الستّة مثلا- غير الموضوع المعلوم- كالأحاديث التي في كتبنا مع ضعف رواتها لكونها زيديّة و فطحيّة و واقفيّة. فلا ينبغي الإعراض عن الأخبار النبويّة التي رواها العامّة فإنّها ليست إلّا مثل ما ذكرناها.

و لعلّ دليل التحريم أنّه قد يؤول إلى ما هو المحرّم و هو العمل به، و أنّ حفظها و نسخها ينبئ عن الرضا بالعمل بما فيه و هو ممنوع، و أنّها مشتملة على البدعة و يجب دفعها من باب النهي عن المنكر و هما ينافيانه. و قد يكون إجماعيا أيضا يفهم من المنتهى.» «2»

أقول: المستفاد من كلامه «ره»

الاستدلال للحرمة بوجوه أربعة:

الأوّل: كون حفظها مقدّمة للعمل بما فيها.

______________________________

(1) التذكرة 1/ 582، كتاب البيع، بيان ما هو حرام من التجارة.

(2) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 75، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 90

..........

______________________________

الثاني: كونها منبئا عن الرضا بالعمل بما فيها.

الثالث: وجوب دفع المنكر كرفعه.

الرابع: الإجماع المفهوم من دعوى عدم الخلاف في المنتهى.

و لا يخفى ما في هذه الوجوه من المناقشة كما ستظهر ممّا يأتي. هذا.

6- و في الحدائق قال: «و عندي في الحكم من أصله توقّف لعدم النصّ، و التحريم و الوجوب و نحوهما أحكام شرعيّة يتوقّف القول بها على الدليل الشرعي. و مجرد هذه التعليلات الشائعة في كلامهم لا تصلح عندي لتأسيس الأحكام الشرعيّة.» «1»

إذا وقفت على ما حكيناه من كلماتهم في المقام فنقول: لا بدّ للبحث في مقامات:

الأوّل: ما هو معنى الحفظ؟.

الثاني: ما هو المراد من كتب الضلال و ما معنى الضلال؟.

الثالث: ما هو الدليل على الحرمة في المسألة؟.

ما هو معنى الحفظ؟

أمّا الحفظ فقد مرّ عن المحقّق الإيرواني «ره» فيه ثلاثة احتمالات و أنّ الظاهر من الأدلّة حرمة الحفظ في مقابل الإتلاف فيجب عليه محو كتب الضلال و إتلافها أينما كانت. و يضاف إليها احتمال رابع و هو حفظها بظهر القلب.

و أمّا الضلال فيأتي من المصنّف معناه.

فلنتعرض فعلا لما يمكن أن يستدلّ به على الحرمة:

______________________________

(1) الحدائق 18/ 141. المسألة 5، حفظ كتب الضلال.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 91

[ما استدلّ به على حرمة الحفظ]
اشارة

و يدلّ عليه- مضافا إلى حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد، (1)

______________________________

ما استدلّ به على حرمة الحفظ

الأوّل: عدم الخلاف

المدّعى في التذكرة و المنتهي. و قد مرّ عن مجمع الفائدة فهم الإجماع منه، و يأتي من المصنّف أنّه لا يقصر عن نقل الإجماع.

و فيه أوّلا: عدم ثبوت الإجماع.

و ثانيا: أنّ الإجماع عندنا ليس حجّة مستقلّة، و إنّما يحتجّ به بلحاظ الكشف عن قول المعصوم عليه السّلام بدعوى ظهور أنّ المفتين تلقّوا المسألة يدا بيد عن المعصومين عليهم السّلام. و هذا إذا لم يحتمل كون الفتاوى مستندة إلى ما يأتي من أدلّة العقل و النقل.

و ثالثا: أنّ المتيقّن منه صورة كون الحفظ بداعي إضلال الناس حيث إنّ حرمة الإضلال ممّا لا ريب فيها.

[الثاني وجوب قطع مادّة الفساد]

(1) الثاني من الأدلّة ما ذكره المصنّف من حكم العقل بوجوب قطع مادّة الفساد.

و أجاب عن ذلك المحقّق الإيرواني بقوله: «العقل لو حكم بذلك لحكم بوجوب قتل الكافر بل مطلق من يضلّ عن سبيل اللّه بعين ذلك الملاك، و لحكم أيضا بوجوب حفظ مال الغير عن التلف، لكن حكمه بذلك ممنوع.» «1»

و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «أنّ مدرك حكم العقل إن كان حسن العدل و قبح الظلم بدعوى أنّ قطع مادّة الفساد حسن و حفظها ظلم و هتك للشارع، فيرد عليه: أنّه لا دليل على وجوب دفع الظلم في جميع الموارد و إلّا لوجب على

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 92

..........

______________________________

اللّه- تعالى- و على الأنبياء و الأوصياء الممانعة عن الظلم تكوينا، مع أنّه- تعالى- هو الذي أقدر الإنسان على فعل الخير و الشرّ. و إن كان مدرك حكمه وجوب الإطاعة و حرمة المعصية لأمره- تعالى- بقطع مادّة الفساد فلا دليل على ذلك إلّا في موارد خاصّة كما في كسر الأصنام و الصلبان و سائر

هياكل العبادة. نعم إذا كان الفساد موجبا لوهن الحقّ و إحياء الباطل وجب دفعه لأهمّية حفظ الشريعة المقدّسة، و لكنّه وجوب شرعي في مورد خاصّ و لا يرتبط بحكم العقل.» «1»

أقول: أحكام العقل على قسمين:

القسم الأوّل: ما يحكم به بلحاظ إدراك المصالح و المفاسد النفس الأمرية ملزمة كانت أو غير ملزمة كحكمه بحسن العدل و الإحسان و أداء الحقوق و قبح الظلم و العدوان و نحو ذلك.

و هذا القسم يستتبع قهرا أحكام الشرع على طبقها و لو إمضاء حيث إنّه ما من موضوع إلّا و له حكم شرعيّ تابع للمصالح و المفاسد، لعدم كون أحكامه جزافيّة. و قد عبّروا عن هذا الاستتباع بالملازمة بين حكم العقل و حكم الشرع.

القسم الثاني: ما يحكم به العقل في المرتبة المتأخّرة عن الأحكام الشرعيّة كحكمه بوجوب إطاعة أوامر الشارع و نواهيه و قبح معصيتها.

و هذا القسم لا تجري فيها قاعدة الملازمة و لا يستتبع حكما شرعيّا، لعدم تحقّق الملاك فيها وراء الملاكات الأوّليّة التي استتبعت الأحكام الأوّليّة، و لاستلزام التسلسل بتحقّق إطاعات غير متناهية و وجوبات كذلك كما فصّل في محلّه.

و حيث إنّ المصنّف هنا في مقام الاستدلال على الحرمة الشرعيّة فلا محالة يكون حكم العقل به المستدلّ به من قبيل القسم الأوّل كما لا يخفى.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 254.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 93

[الثالث حرمة كلّ ما يقع في طريق الإضلال]

و الذمّ المستفاد من قوله- تعالى-: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ. (1)

______________________________

(1) هذا هو الدليل الثالث بتقريب أنّ المستفاد من هذه الآية حرمة كلّ ما يقع في طريق الإضلال و منه حفظ كتب الضلال و الآية في سورة لقمان. قال في مجمع البيان: «نزل قوله: وَ

مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ في النضر بن الحارث ... كان يتّجر فيخرج إلى فارس فيشتري أخبار الأعاجم و يحدّث بها قريشا و يقول لهم: إنّ محمّدا يحدّثكم بحديث عاد و ثمود و أنا أحدّثكم بحديث رستم و إسفنديار و أخبار الأكاسرة فيستمعون حديثه و يتركون استماع القرآن، عن الكلبي.» «1»

و أجاب المحقّق الإيرواني عن هذا الاستدلال بقوله: «الظاهر أنّ المراد من الاشتراء هو التعاطي و هو كناية عن التحدّث به و هذا داخل في الإضلال عن سبيل اللّه بسبب التحدّث بلهو الحديث، و لا إشكال في حرمة الإضلال و ذلك غير ما نحن فيه من إعدام ما يوجب الإضلال.» «2»

أقول: حمل لفظ الاشتراء على التحديث و التحدّث مخالف للظاهر جدّا فالأولى حمله على ظاهره كما ورد في شأن النزول. و مورده كان اشتراء كتب الأباطيل و نشرها بقصد صدّ الناس عن استماع القرآن و متابعته.

و أجاب في مصباح الفقاهة بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ المذموم في ظاهر الآية اشتراء لهو الحديث للإضلال و هذا المعنى أجنبي عن حفظ كتب الضلال، لعدم العلم بترتّب الغاية المحرّمة عليه. و ثانيا: سلّمنا ذلك فالمستفاد من الآية حرمة

______________________________

(1) مجمع البيان 7/ 313 (ط. أخرى 4/ 313)، و الآية في سورة لقمان (31)، الآية 6.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 94

[الرابع اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ]

و الأمر بالاجتناب عن قول الزور. (1)- قوله عليه السّلام فيما تقدّم من رواية تحف العقول: «إنّما حرّم اللّه- تعالى- الصناعة التي يجي ء منها الفساد

______________________________

اشتراء كتب الضلال، و لا دلالة فيها على حرمة إبقائها و حفظها بعد الاشتراء، كما أنّ التصوير حرام و ليس اقتناؤه بحرام، و الزنا حرام و تربية

أولاد الزنا ليست بحرام.» «1»

(1) إشارة إلى قوله- تعالى- في سورة الحجّ: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثٰانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ. «2»

و هذا هو الدليل الرابع للمسألة.

و يرد عليه: أنّ المراد من الزور الكذب و الباطل، و المنهيّ عنه هو التقوّل بهما، و أين هذا من حفظ كتب الضلال؟.

فإن قلت: يمكن إلغاء خصوصيّة القول فيعمّ المنهيّ عنه الكتابة أيضا، كما ربّما يستفاد ممّا دلّ على حجيّة قول العادل حجيّة كتابته أيضا.

قال المحقّق الشيرازي في حاشيته: «و حاصله: أنّ المستفاد من أمثال تلك العبارات الاجتناب عن مطلق ما يدلّ على الباطل قولا كان أو كتابة، و كذا حجيّة كلّ صادر من العادل ممّا يحكى عن الواقع قولا كان أو فعلا.» «3»

قلت: لو سلّم ذلك نقول: إنّ حرمة إيجاد القول أو الكتابة لا تدلّ على وجوب إتلاف الصورة الموجودة كما أنّ حرمة عمل التصوير لا يستلزم وجوب إتلاف الصور الموجودة، و لذا لم يلتزم أحد بوجوب إعدام الأكاذيب المكتوبة أو حرمة إثبات اليد عليها مع اتفاقهم على حرمة ايجاد الكذب قولا و كتابة. هذا.

و لكن في حاشية السيّد الطباطبائي: «يمكن دعوى شمول الآية و عمومها،

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 255.

(2) سورة الحج (22)، الآية 30.

(3) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 72.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 95

محضا. الخ»

[الخامس رواية تحف العقول]

بل قوله عليه السّلام قبل ذلك: «أو ما يقوى به الكفر في جميع وجوه المعاصي أو باب يوهن به الحقّ، إلى آخره (1)

[السادس رواية عبد الملك]

و قوله عليه السّلام في رواية عبد الملك المتقدّمة- حيث شكا إلى الصادق عليه السّلام إني ابتليت بالنظر في النجوم- فقال عليه السّلام: «أ تقضي؟» قلت: نعم. قال:

«أحرق كتبك.» (2)

______________________________

فإنّ مقتضى إطلاق الاجتناب عن القول الزور الاجتناب عنه بجميع الأنحاء الذي منها ما نحن فيه.» «1»

(1) و كذا قوله عليه السّلام و ما يكون منه و فيه الفساد محضا و لا يكون فيه و لا منه شي ء من وجوه الصلاح فحرام تعليمه و تعلّمه و العمل به و أخذ الأجر عليه و جميع التقلّب فيه من جميع وجوه الحركات كلّها.» «2»

و هذا هو الدليل الخامس في المسألة.

و يرد على ذلك- مضافا إلى ضعف الرواية و اضطرابها متنا كما مرّ في أوائل الكتاب- أنّ حرمة الصناعة لا تلازم وجوب إتلاف المصنوع، و الحفظ لا يصدق عليه عنوان التقلّب، و كتب الضلال لا تتمحّض غالبا في الفساد المحض، و بين حفظ كتب الضلال و تقوية الكفر عموم من وجه، فليس كلّ حفظ لها تقوية للكفر إلّا أن يكون حفظها بهذا الداعي أو يعلم بترتّبه عليه قهرا فيحرم حفظه و إمساكه كما صرّح به في الرواية فتدبّر.

(2) هذا دليل سادس للتحريم بناء على كون الأمر في الرواية للوجوب و

______________________________

(1) حاشية المكاسب للسيّد الطباطبائي/ 23.

(2) تحف العقول/ 333 و 335.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 96

بناء على أنّ الأمر للوجوب دون الإرشاد، للخلاص من الابتلاء بالحكم بالنجوم.

و مقتضى الاستفصال في هذه الرواية أنّه إذا لم يترتّب على إبقاء كتب الضلال مفسدة لم يحرم.

و هذا

أيضا مقتضى ما تقدّم من إناطة التحريم بما يجي ء منه الفساد محضا. (1)

______________________________

عدم احتمال خصوصيّة لكتب النجوم.

و يرد عليه: أنّ المأمور به في الرواية هو إحراق كتبه إن كان يقضى بها و يرتّب الأثر عليها لا مطلقا فلا يصحّ الاستدلال بالرواية لحرمة الحفظ مطلقا، و قد أشار إلى ذلك المصنّف أيضا كما ترى.

(1) أقول: ناقش في ذلك المحقّق الشيرازي «ره» في حاشيته فقال ما ملخّصه:

«لا يخفى أنّه قد تقدّم الاستدلال بمثل هذه الأدلّة على حرمة بيع الأعيان التي لا يقصد منها إلّا الحرام كهياكل العبادات المخترعة و آلات اللهو و القمار و نحوها و لم يعتبروا في ذلك ترتّب الفساد فعلا عليها في حرمة بيعها و إلّا دخل في الأقسام التي ذكروها بعد ذلك للبيع المحرّم من اشتراط ترتّب الحرام أو القصد إلى وقوعه أو العلم بترتّبه عليه فلا يكون بيع الأعيان المذكورة بنفسها قسما محرّما مقابلا للأقسام المذكورة.

و الحاصل: أنّ مقتضى كلماتهم هناك أنّ المحرّم بمقتضى تلك الأدلّة هو ما لا يكون له فائدة إلّا الحرام و إن لم يترتّب على هذا البيع تلك الفائدة بأن يعلم أنّ هذا الصنم الذي يبيعه لا يقع عليه عبادة في الخارج، و مقتضى كلامهم في هذا

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 97

..........

______________________________

المقام عدم ثبوت الحرمة إلّا مع العلم بترتّب الضلال عليه أو احتمال معتدّ به. و لعلّ الأظهر ما ذكروه هناك بقرينة إطلاق الأمثلة المذكورة في الرواية من هياكل العبادة المخترعة و البرابط و المزامير و غيرها من الأمثلة المذكورة. بل عمومها المانع من دعوى انصرافها إلى ما يترتّب عليه الحرام و الفساد فعلا.» «1»

أقول: يمكن أن يجاب عن هذه المناقشة بالفرق بين المقامين فإنّ

البحث في السّابق كان في البيع، و هو يتوقّف على كون المبيع مالا بحسب العرف و الشرع، و ماليّة الشي ء تتوقّف على اشتماله على المنافع المقصودة المحلّلة فإذا لم يكن كذلك لم يكن مالا، و إن لم يترتّب عليه الفساد فعلا، و أمّا في المقام فالبحث في جواز الحفظ، و جوازه لا يتوقّف على ماليّة الشي ء المحفوظ. بل يكفي فيه عدم ترتّب الفساد عليه خارجا، و لو فرض الشكّ في ذلك أيضا فالأصل يقتضي عدم ترتّبه فيجوز حفظه. و أمّا ما ذكر المصنّف من أنّ المصلحة الموهومة أو المحقّقة النادرة لا اعتبار بها فغرضه أنّ مع فرض ترتّب المفسدة لا يكفي المصلحة الموهومة أو النادرة لجبرانها و رفع المنع، إذ مع عدم ترتّب المفسدة خارجا لا نحتاج في الحكم بجواز الحفظ إلى وجود المصلحة.

نعم يمكن أن يقال في مثل هياكل العبادة و أمثالها، إنّه يفهم من مذاق الشارع كون نفس وجودها مبغوضا للشارع و إن لم يترتّب عليها الفساد خارجا فيجب إتلافها، و أمّا كتب الضلال فلا دليل على كونها من هذا القبيل، و إنّما يحرم حفظها بلحاظ ما يترتّب عليها من الفساد خارجا و يقصد بحفظها ذلك، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ ضرر كتب الضلال ليس بأقلّ من ضرر هياكل العبادة و نحوها فتدبّر.

السّابع من الأدلّة: ما مرّ من مجمع الفائدة من أنّها مشتملة على البدعة

و يجب

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 72.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 98

نعم المصلحة الموهومة أو المحقّقة النادرة لا اعتبار بها فلا يجوز الإبقاء بمجرد احتمال ترتّب مصلحة على ذلك مع كون الغالب ترتّب المفسدة، و كذلك المصلحة النادرة الغير المعتدّ بها.

[حفظ كتب الضلال لا يحرم إلّا من حيث ترتّب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا]

و قد تحصّل من ذلك أنّ حفظ كتب الضلال لا يحرم إلّا من حيث ترتّب مفسدة الضلالة قطعا أو احتمالا قريبا فإن لم يكن كذلك أو كانت المفسدة المحقّقة معارضة بمصلحة أقوى، أو عارضت المفسدة المتوقعة مصلحة أقوى أو أقرب وقوعا منها فلا دليل على الحرمة إلّا أن يثبت إجماع أو يلتزم بإطلاق عنوان معقد نفي الخلاف الذي لا يقصر عن نقل الإجماع. (1)

______________________________

دفعها من باب النهي عن المنكر.

و يرد على ذلك أنّا و إن سلّمنا أنّ دفع المنكر كرفعه واجب بل رفعه في الحقيقة يرجع إلى دفعه بقاء، و لكن الظاهر أنّ المراد بالمنكر في المقام هو الفعل المحرّم الذي يصدر من الشخص، لا الأباطيل و الأكاذيب المكتوبة في الكتب فلا دليل على وجوب إتلافها.

نعم لو فرض ترتّب الفعل الحرام عليها وجب إتلافها لذلك.

فهذه إلى هنا سبعة أدلّة أقاموها على الحكم بالتحريم في المسألة، و قد مرّ أنّ المتيقّن من ذلك صورة كون الحفظ بداعي الإضلال بها أو فرض العلم بترتّب الضلال بها خارجا، بل يمكن المنع في هاتين الصورتين أيضا، لمنع حرمة مقدّمة الحرام و لا سيّما إذا لم يكن إيصالها إلى ذيها بنحو القطع.

(1) أقول: عدم قصور نفي الخلاف عن الإجماع المصطلح ممنوع، إذ يمكن

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 99

[ما هو المراد بالضلال؟]

و حينئذ فلا بدّ من تنقيح هذا العنوان و أنّ المراد بالضلال ما يكون باطلا في نفسه فالمراد الكتب المشتملة على المطالب الباطلة، أو أنّ المراد به مقابل الهداية؟ فيحتمل أن يراد بكتبه ما وضع لحصول الضلال، و أن يراد ما أوجب الضلال و إن كان مطالبها حقة كبعض كتب العرفاء و الحكماء المشتملة على ظواهر منكرة يدّعون أنّ

المراد غير ظاهرها، فهذه أيضا كتب ضلال على تقدير حقيّتها. (1)

______________________________

عدم عنوان المسألة إلّا من قبل جمع قليل لا يكشف اتّفاقهم و عدم خلافهم عن تلقّي المسألة عن المعصومين عليهم السّلام.

ما هو المراد بالضلال؟

(1) احتمل المصنّف- كما ترى- في معنى الضلال ثلاثة احتمالات، و لعلّ أظهرها هو الاحتمال الثالث و لكن لا بمعنى إيجابه الضلال و لو لفرد ما أحيانا، لجهله و سذاجته و إلّا لزم كون جميع الكتب حتى مثل القرآن الكريم و كتب الحديث كتب ضلال، بل بمعنى إيجابه الضلال لكثير ممّن يراجعه من المتوسّطين خالي الذهن، لاشتماله على مطالب باطلة مشابهة للحقّ من دون نفع في وجوده.

و قال المحقّق الشيرازي «ره» في الحاشية: «المنصرف من الضلال هو الضلال عن الدين بالإنكار أو الشكّ في أحد المعارف الخمس و ما يتبعها، و يحتمل أن يراد به في المقام أعمّ من ذلك و ممّا يوجب الإقدام على المعاصي كالكتب المصنّفة في علم السّحر و الشعبذة و الكهانة و نحوها. و يدلّ عليه عموم بعض

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 100

[الكتب السماويّة المنسوخة]

ثمّ الكتب السماويّة المنسوخة غير المحرّفة لا تدخل في كتب الضلال. و أمّا المحرّفة كالتوراة و الإنجيل- على ما صرّح به جماعة- فهي داخلة في كتب الضلال بالمعنى الأوّل بالنسبة إلينا حيث إنّها لا توجب للمسلمين بعد بداهة نسخها ضلالة. (1)

نعم توجب الضلالة لليهود و النصارى قبل نسخ دينهما. (2) فالأدلّة المتقدّمة لا تدلّ على حرمة حفظهما.

______________________________

الأدلّة الآتية.» «1»

أقول: ما ذكره من الاحتمال هو الأظهر و الأوفق بالأدلّة كما صرّح به.

بحث حول كتب السماوية المحرّفة

(1) قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «نعم لا يوجب للمسلمين ضلالة لكن بالنسبة إلى الفروع دون الأصول

فإنّها لا يعتريها النسخ. و أمّا التحريف فإنّه غير مانع من الضلالة بمعنى حصول الشكّ و الريبة و التزلزل في الاعتقاد، لاحتمال أن لا يكون ما اشتمل على الجبر و التجسيم و غير ذلك من الكفر محرّفا.» «2»

(2) لعلّ التقييد بذلك من جهة أنّهما بعد نسخ دينهما في ضلال قطعا حيث اعتقدا عدم نسخ دينهما فلا يوجب التحريف لهما ضلالا آخر و كان الأولى التعبير بفعل الماضي فيقول: أوجبت الضلالة.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 71.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 25.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 101

قال في المبسوط- في باب الغنيمة من الجهاد-: «فإن كان في المغنم كتب نظر فإن كانت مباحة يجوز إقرار اليد عليها- مثل كتب الطبّ و الشعر و اللغة و المكاتبات- فجميع ذلك غنيمة، و كذلك المصاحف و علوم الشريعة: الفقه و الحديث، لأنّ هذا مال يباع و يشترى. و إن كانت كتبا لا يحلّ إمساكها- كالكفر و الزندقة و ما أشبه ذلك- فكلّ ذلك لا يجوز بيعه، فإن كان ينتفع بأوعيته إذا غسل- كالجلود و نحوها- فإنّها غنيمة، و إن كان ممّا لا ينتفع بأوعيته- كالكاغذ- فإنّه يمزّق و لا يحرق إذ ما من كاغذ إلّا و له قيمة و حكم التوراة و الإنجيل هكذا كالكاغذ فإنّه يمزّق، لأنّه كتاب مغيّر مبدّل.» انتهى (1)

و كيف كان فلم يظهر من معقد نفي الخلاف إلّا حرمة ما كان موجبا للضلال و هو الذي دلّ عليه الأدلّة المتقدّمة.

نعم ما كان من الكتب جامعا للباطل في نفسه من دون أن يترتّب عليه ضلالة، لا يدخل تحت الأموال فلا يقابل بالمال، لعدم المنفعة

______________________________

(1) راجع المبسوط «1» و ظاهر سياق الكلام كون عبارة المبسوط موافقة

لما ذكره المصنّف، و ليس كذلك، إذ صريح المبسوط وجوب تمزيق التوراة و الإنجيل فيحرم حفظهما، و قوله: «ما من كاغذ إلّا و له قيمة» أراد بذلك أنّه من غنائم المسلمين فلا يجوز إحراقه من أصله.

______________________________

(1) المبسوط 2/ 30.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 102

المحلّلة المقصودة فيه (1) مضافا إلى آيتي لهو الحديث و قول الزور، أمّا وجوب إتلافها فلا دليل عليه.

______________________________

(1) أقول: مجرّد بطلان مطالب الكتاب لا يوجب خروجه عن الماليّة عرفا و لا شرعا، إذ ربّما ينتفع بها في التعليم و التربية كقصص كليلة و دمنة و نحو ذلك من كتب الأمثال و الأشعار الأدبيّة، أو لتفريج الهموم و إيجاد النشاط الروحي و لا سيّما في الصبيان و البسطاء، فهذه كلّها منافع و فوائد عقلائيّة توجب الرغبة فيها و بذل المال بإزائها. و آية لهو الحديث أيضا لا تشملها، إذ المذموم فيها هو الاشتراء بداعي الإضلال، و المفروض في المقام عدم ترتّب الضلال و عدم قصده. و المنهيّ عنه في آية قول الزور هو التقوّل بالقول الباطل و ترتيب الأثر عليه فلا يشمل قراءة القصص الكاذبة لغرض عقلائي.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 103

[حكم تصانيف المخالفين في الأصول و الفروع و الحديث و التفسير]

و ممّا ذكرنا ظهر حكم تصانيف المخالفين في الأصول و الفروع و الحديث و التفسير و أصول الفقه و ما دونها من العلوم فإنّ المناط في وجوب الإتلاف جريان الأدلّة المتقدّمة فإنّ الظاهر عدم جريانها في حفظ شي ء من تلك الكتب إلّا القليل ممّا ألّف في خصوص إثبات الجبر و نحوه و إثبات تفضيل الخلفاء أو فضائلهم و شبه ذلك.

و ممّا ذكرنا أيضا يعرف وجه ما استثنوه في المسألة من الحفظ للنقض و الاحتجاج على أهلها أو

الاطلاع على مطالبهم ليحصل به التقيّة أو غير ذلك. (1)

و لقد أحسن جامع المقاصد حيث قال: «إنّ فوائد الحفظ كثيرة.» (2)

و ممّا ذكرنا أيضا يعرف حكم ما لو كان بعض الكتاب موجبا للضلال فإنّ الواجب رفعه و لو بمحو جميع الكتاب إلّا أن يزاحم مصلحة وجوده لمفسدة وجود الضلال.

______________________________

(1) من المصالح العقلائيّة المشروعة التي تكون أقوى بالنسبة إلى المفسدة المظنونة أو مساوية لها، دون المصالح الموهومة أو النادرة الغير المعتنى بها عرفا، و قد صرّح المصنّف بذلك فيما سبق.

(2) في جامع المقاصد في ذيل قول المصنّف: «و حفظ كتب الضلال و نسخها لغير النقض أو الحجّة.» قال: «أي نقض مسائل الضلال أو الحجّة على مسائل الحقّ من كتب الضلال، و ظاهره حصر جواز الحفظ و النسخ في الأمرين و الحقّ أنّ فوائد الحفظ كثيرة ...» «1»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 26، أوائل كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 104

و لو كان باطلا في نفسه كان خارجا عن الماليّة فلو قوبل بجزء من العوض المبذول يبطل المعاوضة بالنسبة إليه. (1)

[الحفظ المحرّم أعمّ من الحفظ بظهر القلب و النسخ و المذاكرة]

ثمّ الحفظ المحرّم يراد به الأعمّ من الحفظ بظهر القلب و النسخ و المذاكرة و جميع ما له دخل في بقاء المطالب المضلّة.

______________________________

أقول: و في هذه الأعصار التي تكثّرت وسائل الطبع و النشر ربّما لا يكون إتلاف نسخة أو نسخ من كتاب ضلال موجبا لمحوه و محو آثاره بل ربّما يصير ذلك موجبا لتوجّه الناس إليه و كثرة الرغبات فيه- و الإنسان حريص على ما منع- و بالعكس يكون حفظه و نشره بما فيه من الأباطيل و الخرافات و الأحكام الواهية موجبا لوضوح بطلانه و ضلاله، فيكون نشره و تكثيره من أسهل الطرق لرفع إضراره

فلا يكون الحفظ حينئذ حراما كما لا يخفى.

(1) أقول: تبعيض المعاملة و الثمن بالنسبة إلى أجزاء شي ء واحد نظير الكتاب مثلا مشكل. و إنّما يحكم بالتبعيض في المعاملة الواقعة على شيئين كالشاة و الخنزير مثلا أو ما يشبه ذلك و يتكثّر عرفا. و على هذا فإن فرض ترتّب المفسدة على بعض الكتاب كانت النتيجة تابعة للأخسّ فيحكم على الكلّ بحرمة حفظه و بيعه، و إن فرض عدم ترتّب المفسدة و لكن كان بعضه باطلا في نفسه و بعضه غير باطل صدق على الكتاب بلحاظ بعضه الحقّ المفيد أنّه مال مشتمل على الفائدة فتصحّ المعاملة عليه فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 105

حكم حلق اللحية
[أكثر الفقهاء من أصحابنا أهملوا المسألة]

______________________________

كان من المناسب أن يتعرّض المصنّف (قده) في المقام لمسألة حلق اللحية، فإنّها من المسائل المبتلى بها في عصرنا، و ربما يكتسب به أيضا، فإن قيل بحرمته كان الاكتساب به من المكاسب المحرمة.

و العجب أنّ أكثر الفقهاء و لا سيما المتقدمين من أصحابنا أهملوا المسألة و لم يتعرّضوا لها، و على فرض كون المنع فيها واضحا عندهم بلحاظ استقرار سيرة المتشرعة في تلك الأعصار على عدم الحلق كان المترقب منهم أيضا التعرّض لها كما كانوا يتعرضون لكثير من الأحكام الواضحة.

و كيف كان فالمناسب أن نتعرض لها هنا فنقول:

قال في مجمع البحرين: «اللّحي- كفلس-: عظم الحنك، و اللحيان- بفتح اللام-: العظمان اللذان تنبت اللحية على بشرتهما، و يقال لملتقاهما: الذقن ...

و اللحية- كسدرة-: الشعر النازل عن الذقن و جمعها: لحى- كسدر- و قد تضمّ اللام فيهما كحلية و حلى.» «1»

أقول: ربما ينسبق من تفسيره للّحيين عدم انحصار مفهوم اللحية في خصوص

______________________________

(1) مجمع البحرين 1/ 373 (ط. أخرى/ 75).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3،

ص: 106

..........

______________________________

الشعر النازل عن الذقن، بل يعمّ ما ينبت على الطرفين أيضا، و لعلّ العرف أيضا يساعد على ذلك فيطلق اللفظ على المجموع، و يشبه أن يكون وزن فعلة- بكسر العين- هنا استعمل لبيان هيئة اللحيين بحسب الظاهر. و في لسان العرب عن ابن سيدة: «اللحية اسم يجمع، من الشعر ما نبت على الخدّين و الذقن.» «1»

و على هذا فلو فرض المنع من حلق اللحية حسب ما يأتي من الأدلّة، يشكل حلق ما على الطرفين أيضا على ما شاع بين المثقفين في عصرنا، و يكون مرتبة من حلق اللحية. هذا.

و اللحية في الرجال ممّا ميّزهم اللّه- تعالى- بها عن النساء و زيّنهم بها و جعلها جمالا لهم:

ففي البحار عن العلل- في حديث-: «إنّ جبرئيل عليه السّلام خاطب آدم عليه السّلام فقال:

«إني رسول اللّه إليك و هو يقرئك السّلام و يقول: يا آدم حيّاك اللّه و بيّاك.» قال:

أمّا حيّاك اللّه فأعرفه، فما بيّاك؟ قال: أضحكك. قال: فسجد آدم فرفع رأسه إلى السماء و قال: يا ربّ زدني جمالا، فأصبح و له لحية سوداء كالحمم، فضرب بيده إليها فقال: يا ربّ ما هذه؟ فقال: هذه اللحية زيّنتك بها أنت و ذكور ولدك إلى يوم القيامة.» «2»

أقول: في معنى قوله: «حيّاك» أقوال: منها أنّه من الحياة، يعني أبقاك اللّه، و منها أنّه من التحية، يعني سلام عليك. و في معنى بيّاك أيضا أقوال: منها أنه اتباع لحيّاك، و منها أنّه بمعنى أضحكك كما في الحديث، و منها أنّ أصله بوّأك أي

______________________________

(1) لسان العرب 15/ 234.

(2) بحار الأنوار 11/ 172، كتاب النبوة، باب ارتكاب ترك الأولى و معناه، الحديث 18.

و الأقوال في معنى الكلمتين نقلها في البحار

عن الجوهري.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 107

..........

______________________________

أسكنك منزلا في الجنّة، إلى غير ذلك من الأقوال فيهما. و الحمم- كصرد-:

الفحم.

و المستفاد من الحديث مطلوبية وجود اللحية في الرجال و مرجوحية حلقها و إزالتها بالكليّة، نعم دلالته على الحرمة غير واضحة بل ممنوعة.

نقل الكلمات في مسألة حلق اللحية

و كيف كان ففي مصباح الفقاهة: «المشهور بل المجمع عليه بين الشيعة و السنّة هو حرمة حلق اللحية.» «1»

أقول: لا يخفى ما في هذا التعبير، لما مرّت الإشارة إليه من عدم تعرّض الأكثر و لا سيّما القدماء منّا لأصل المسألة فلا مجال لدعوى الشهرة أو الإجماع فيها، اللّهم إلّا أن يريد بهما استقرار السيرة العملية بين المتشرعة على إبقاء اللحية و استنكارهم لحلقها بناء على ثبوت استمرارها إلى عصر المعصومين عليهم السّلام، نعم تعرّض للمسألة المتأخرون من أصحابنا فلنتعرض لبعض الكلمات:

1- قال العلّامة في التذكرة: «الفصل الثالث في أمور تتعلق بالفطرة ...

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبّهوا باليهود.» و نظر إلى رجل طويل اللحية فقال: «ما كان على هذا لو هيّأ من لحيته؟» فبلغ الرجل ذلك فهيّأ لحيته بين لحيتين ثم دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما رآه قال: هكذا فافعلوا.» «2»

2- و قال ابن سعيد في جامع الشرائع: «و يكره القزع، و قال عليه السّلام: «أعفوا اللحى و حفّوا الشوارب.» و ينبغي أن يؤخذ من اللحية ما جاوز القبضة، و يكره

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 257، حرمة حلق اللحية.

(2) التذكرة 1/ 70، كتاب الطهارة، الباب السابع، الفصل الثالث.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 108

..........

______________________________

نتف الشيب.» «1»

أقول: القزع- بفتحتين- و الواحدة قزعة: أخذ بعض الشعر

و ترك بعضه.

و دلالة العبارتين على إفتائهما بالحرمة غير واضحة، و سيأتي البحث في الأخبار المنقولة.

3- و في كتاب «المنية في حكم الشارب و اللحية» للمرحوم آية اللّه الطبسي نقلا عن كتاب الاعتقادات للشيخ البهائي- رحمهما اللّه تعالى- أنه قال: «إنّ حلق اللحية كبقية المآثم الكبيرة من قبيل القمار و السّحر و الرشوة، و لم يخدش واحد من العلماء الأعلام في حرمته.» «2»

4- و فيه أيضا عن السّيد الداماد في رسالة شارع النجاة: «إنّ حلق اللحية حرام بالإجماع.» «3»

أقول: قد مرّ منا المناقشة في دعوى الإجماع مع عدم تعرض الأكثر للمسألة.

5- و في الجزء الرابع من الوافي بعد نقل أخبار الباب قال: «و قد أفتى جماعة من فقهائنا بتحريم حلق اللحية، و ربما يستشهد لهم بقوله سبحانه حكاية عن إبليس اللعين: وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ.» «4»

6- و في المفتاح الخامس و الستين و الأربعمائة من مفاتيح الشرائع في عدّ المعاصي قال: «و حلق اللحية، لأنّه خلاف السنّة التي هى إعفاؤها، و لمسخ طائفة

______________________________

(1) الجامع للشرائع/ 30، كتاب الطهارة، باب الاستطابة و سنن الحمام.

(2) المنية في حكم الشارب و اللحية/ 55، الأمر الخامس.

(3) نفس المصدر و الصفحة. هذا. و لكن ليس في عبارة الرسالة- ص 103- المطبوعة في مجموعة من رسائل السّيد «رض» دعوى الإجماع، فراجع.

(4) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 658)، كتاب الطهارة و التزين، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 109

..........

______________________________

بسببه.» «1»

7- و في الحدائق: «الظاهر- كما استظهره جملة من الأصحاب كما عرفت- تحريم حلق اللحية لخبر المسخ المرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام، فإنه لا يقع إلّا على

ارتكاب أمر محرّم بالغ في التحريم، و أمّا الاستدلال بآية وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ ففيه أنّه قد ورد عنهم عليهم السّلام: أن المراد دين اللّه، فيشكل الاستدلال بها على ذلك و إن كان ظاهر اللفظ يساعده.» «2»

أقول: ربما استظهر من تعبيره بالظاهر دعواه الإجماع في المسألة، و لا يخفى ما في ذلك.

8- و المجلسي الأوّل «ره» في روضة المتقين في ذيل ما يأتي عن أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله: «إنّ أقواما حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمسخوا.» قال: «و يظهر من الأوامر بإعفاء اللحى و هذا الخبر و من أنّه زيّ اليهود و جزّه زيّ المجوس، الحرمة، و لم يذكره فيما رأينا منهم غير الشهيد «ره» فإنّه ذكر حرمة الحلق بلا ذكر خلاف، و المسموع من المشايخ أيضا حرمته، و يؤيّده أنّه لم ينقل تجويزه من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الأئمة عليهم السّلام، و لو كان جائزا لفعلوه مرّة لبيان الجواز كما في كثير من المكروهات، أو وقع منهم الرخصة لأحد ...» «3»

9- و قال المجلسي الثاني «ره» في مرآة العقول في ذيل هذا الخبر: «و استدلّ به

______________________________

(1) مفاتيح الشرائع 2/ 20، كتاب مفاتيح النذور و العهود، الباب الثاني في أصناف المعاصي ....

(2) الحدائق الناضرة 5/ 561، في خاتمة كتاب الطهارة. و الآية من سورة النساء، رقمها 119.

(3) روضة المتقين 1/ 333، كتاب الطهارة، باب غسل الجمعة ... و ما جاء في التنظيف و الزينة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 110

..........

______________________________

على حرمة حلق اللحية بل تطويل الشارب، و يرد عليه أنّه إنّما يدلّ على حرمتهما أو أحدهما في شرع من قبلنا لا في شرعنا.

فإن قيل: ذكره

عليه السّلام ذلك في مقام الذمّ يدلّ على حرمتهما في هذه الشريعة أيضا.

قلنا: ليس الإمام عليه السّلام في مقام ذمّ هذين الفعلين، بل في مقام ذمّ بيع المسوخ بهذا السبب، كما أنّ مسوخ بني إسرائيل مسخوا لصيد السبت و ذكرهم هنا لا يدلّ على تحريمه، نعم يدلّ بعض الأخبار على التحريم، و في سندها أو دلالتها كلام ليس هذا المقام محلّ إيراده.» «1»

10- و في آداب الحمام من كشف الغطاء: «و يحرم حلقها و يستحبّ توفيرها قدر قبضة من يد صاحبها.» «2»

11- و في حج الجواهر في ذيل قول المصنّف في مناسك منى: «و ليس على النساء حلق.» قال: «بل يحرم عليهن ذلك بلا خلاف أجده فيه أيضا بل عن المختلف الإجماع عليه و هو الحجة بعد المرتضوي: «نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تحلق المرأة رأسها» إي في الإحلال لا مطلقا، فإنّ الظاهر عدم حرمته عليها في غير المصاب المقتضي للجزع، للأصل السّالم عن معارضة دليل معتبر، اللّهم إلّا أن يكون هناك شهرة بين الأصحاب تصلح جابرا لنحو المرسل المزبور بناء على إرادة الإطلاق فيكون كحلق اللحية للرجال.» «3»

______________________________

(1) مرآة العقول 4/ 79، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ و المبطل في أمر الإمامة.

(2) كشف الغطاء/ 190، في آداب الحمام، في الموضع الثاني من أحكام التوابع.

(3) الجواهر 19/ 236، كتاب الحج.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 111

..........

______________________________

أقول: ظاهره كون حرمة حلق اللحية للرجال مشتهرة بين الأصحاب بحيث يجبر بها ضعف رواياتها لو فرض ضعفها.

12- و في كتاب الحظر و الإباحة من الفقه على المذاهب الأربعة عن الشافعيّة:

«أمّا اللحية فإنّه يكره حلقها و المبالغة في قصّها،

فإذا زادت على القبضة فإن الأمر فيه سهل خصوصا إذا ترتب عليه تشويه للخلقة أو تعريض به أو نحو ذلك ...»

و عن الحنفية: «يحرم حلق لحية الرجل، و يسنّ أن لا تزيد في طولها على القبضة، فما زاد على القبضة تقصّ، و لا بأس بأخذ أطراف اللحية و حلق الشعر الذي تحت الإبطين، و نتف الشيب، و تسنّ المبالغة في قصّ الشارب ...»

و عن المالكية: «يحرم حلق اللحية و يسنّ حلق الشارب ...»

و عن الحنابلة: «يحرم حلق اللحية و لا بأس بأخذ ما زاد على القبضة منها فلا يكره قصّه كما لا يكره تركه. و كذا لا يكره أخذ ما تحت حلقة الدبر من الشعر، و يكره نتف الشيب، و يسن المبالغة في قصّ الشارب ...» «1»

أقول: ظاهر مقابلة كلام الشافعية لما عن غيرهم إرادة الشافعية الكراهة المصطلحة و إن استعمل لفظ الكراهة في الكتاب و السنة كثيرا في الحرمة أيضا.

______________________________

(1) الفقه على المذاهب الأربعة 2/ 44، كتاب الحظر و الإباحة، حكم إزالة الشعر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 112

ما استدلّ بها على الحرمة و المناقشات فيها
اشارة

______________________________

إذا وقفت على ما عثرنا عليه عاجلا من كلماتهم في المقام فلنتعرض لما استدلّوا بها على الحرمة و هي أمور:

الأمر الأوّل: الإجماع المدّعى في بعض الكلمات

و فيه ما مرّ من عدم تعرّض الأكثر للمسألة و لا سيّما القدماء من أصحابنا في كتبهم المعدّة لنقل المسائل المأثورة، فكيف يدّعى فيها الإجماع؟! و لو سلّم فلا يكون دليلا مع احتمال استناد المفتين إلى ما يأتي من الآيات و الروايات كما يشاهد استدلالهم بها في كلماتهم.

الأمر الثاني: قوله تعالى حكاية عن إبليس اللعين:

وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذٰانَ الْأَنْعٰامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللّٰهِ الآية. «1»

بتقريب أن حلق اللحية تغيير لخلق اللّه و ظاهر الآية حرمته مطلقا فيجب الأخذ به إلّا فيما خرج بالدليل.

و فيه: أن ظهور الآية في الحرمة إجمالا مما لا ريب فيه و لكن لا مجال للقول بحرمة مطلق التغيير في خلق اللّه تعالى، إذ من الواضح جواز حلق الرأس و العانة و الإبطين و قصّ الأظفار و التصرف في مخلوقاته تعالى بإجراء الأنهار و حفر الآبار و كسر الأحجار و قطع الأشجار و نحو ذلك فيجب حمل الآية على ما لا يشمل هذا

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 119.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 113

..........

______________________________

القبيل من التغييرات. و على هذا فشمولها لمثل حلق اللحية غير واضح. و حملها على الإطلاق و تخصيصها فيما ثبت جوازه بدليل آخر مشكل، إذ مضافا إلى كون سياقها آبيا عن التخصيص يلزم من ذلك تخصيص الأكثر المستهجن. و المفسّرون من الفريقين ذكروا في الآية أقوالا و احتمالات و لم نعثر على من يفسّرها بحلق اللحية:

قال الشيخ في التبيان: «اختلفوا في معناه فقال ابن عباس و الربيع بن أنس عن أنس إنّه الإخصاء و كرهوا الإخصاء في البهائم، و به قال سفيان و شهر بن حوشب و عكرمة و أبو صالح. و في رواية أخرى عن ابن عباس:

فليغيرنّ دين اللّه، و به قال إبراهيم و مجاهد و روي ذلك عن أبي جعفر و أبى عبد اللّه عليهما السّلام قال مجاهد:

كذب العبد يعني عكرمة في قوله: إنه الإخصاء و إنّما هو تغيير دين اللّه الذي فطر الناس عليه في قوله: فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، و هو قول قتادة و الحسن و السدّي و الضحاك و ابن زيد. و قال قوم هو الوشم، روي ذلك عن الحسن و الضحاك و إبراهيم أيضا و عبد اللّه، و قال عبد اللّه:

لعن اللّه الواشمات و الموتشمات و المتفلجات المغيّرات خلق اللّه، و قال الزجّاج:

خلق اللّه تعالى الأنعام ليأكلوها فحرّموها على أنفسهم، و خلق الشمس و القمر و الحجارة مسخّرة للناس ينتفعون بها فعبدها المشركون. و أقوى الأقوال قول من قال: فليغيّرنّ خلق اللّه بمعنى دين اللّه، بدلالة قوله فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ ذٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، و يدخل في ذلك جميع ما قاله المفسّرون لأنّه إذا كان ذلك خلاف الدين فالآية تتناوله.» «1»

أقول: المتفلجات بمعنى الواشرات، و الوشر: تحديد الأسنان و ترقيقها، و قد مرّ

______________________________

(1) التبيان 1/ 471 (ط. أخرى 3/ 334).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 114

..........

______________________________

في مسألة تدليس الماشطة أنّه لا مجال للقول بحرمة الوشم و الوشر و نحوهما إلّا لغرض التدليس أو تهييج الرجال الأجانب، فراجع. «1»

و في تفسير الميزان: «و لآمرنّهم بتغيير خلق اللّه، و ينطبق على مثل الإخصاء و أنواع المثلة و اللواط و السحق، و ليس من البعيد أن يكون المراد بتغيير خلق اللّه الخروج عن حكم الفطرة و ترك الدين الحنيف، قال تعالى: فَأَقِمْ

وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ.» «2»

و في الدرّ المنثور «3» ذكر روايات كثيرة عن الصحابة و التابعين في تفسير الآية، و في الأكثر تفسيرها بالإخصاء أو إخصاء البهائم، و في بعضها تفسيرها بتغيير دين اللّه.

و كيف كان فلم نعثر في كلمات المفسرين على تفسيرها بحلق اللحية. هذا.

و لكن صاحب المنية مصرّ على جواز الاستدلال بالآية للمقام و ردّ احتمال كون المراد بخلق اللّه فيها دين اللّه و الأمر المعنوي. قال ما ملخصه: «و توهم كون المراد من التغيير في الآية الأمر المعنوي مدفوع بقرينة صدر الآية و ذيلها: أمّا الصدر فقوله: «فليبتكن» فإنّه ظاهر في الأمور الخارجية التي هي موارد لأمر الشيطان، و ذلك أنّ الإبل عند ما تلد خمسة بطون عملوا ذلك الفعل فيها و حرّموها على أنفسهم. و أما قرينة الذيل فكلمة: «خلق»، فإنّها ظاهرة في التغيير الحسّي التكويني لا المعنوي التشريعي على معنى تغيير خصوص أحكام الدين. و لو سلّم فهذا أيضا من الدين فيتم الاستدلال بالآية على حرمته.» «4»

______________________________

(1) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 2/ 472.

(2) الميزان 5/ 85 (ط. أخرى 5/ 87). و الآية من سورة الروم (30)، رقمها 30.

(3) راجع الدرّ المنثور 2/ 223.

(4) المنية في حكم الشارب و اللحية/ 34، الأمر الأول.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 115

..........

______________________________

أقول: يرد عليه أوّلا: أنّ مجموع فقرات الآية ترجع إلى أمور معنوية: من إضلالهم، و تقوية أمنياتهم الدنيوية في قبال التوجه إلى الآخرة، و قطعهم آذان الأنعام و تحريمها بذلك افتراء على اللّه تعالى، و تغيير فطرة التوحيد فيهم إلى الشرك.

و ثانيا: أنّ الخلق أعمّ من الخلق المادي و المعنوي كما يشهد

بذلك قوله تعالى:

فِطْرَتَ اللّٰهِ الَّتِي فَطَرَ النّٰاسَ عَلَيْهٰا لٰا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللّٰهِ.

و ثالثا: أنّ ما ذكره أخيرا من قوله: «و لو سلّم فهذا أيضا من الدين» مصادرة على المطلوب، إذ نفس حلق اللحية ليس من الدين بل حرمته على فرض ثبوتها و هي أوّل الكلام.

الأمر الثالث: قوله تعالى في سورة النحل:

ثُمَّ أَوْحَيْنٰا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. «1»

بتقريب أنّه تعالى أمر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باتباع ملّة إبراهيم حنيفا، و يجب على أمّته أيضا التأسّى به، و قد فسّرت الحنفية بعشر خصال و منها إعفاء اللحى:

ففي تفسير علي بن إبراهيم في ذيل هذه الآية: «و هي الحنفية العشرة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام: خمسة في البدن و خمسة في الرأس، فأمّا التي في البدن فالغسل من الجنابة، و الطهور بالماء، و تقليم الأظفار، و حلق الشعر من البدن، و الختان.

و أمّا التي في الرأس فطمّ الشعر، و أخذ الشارب، و إعفاء اللحى، و السواك، و الخلال. فهذه لم تنسخ إلى يوم القيامة.» «2»

______________________________

(1) سورة النحل (16)، الآية 123.

(2) تفسير علي بن إبراهيم القمي/ 367 (ط. أخرى 1/ 391).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 116

..........

______________________________

و ذكر نحو ذلك في ذيل قوله تعالى في سورة البقرة: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ الآية. «1»

و الظاهر منه في الموضعين كون هذا التفسير من كلام نفسه، إلّا أن يقال:

هو «ره» أجلّ من أن يفسّر القرآن برأيه. فلا محالة اقتبس ذلك من المعصومين عليهم السّلام.

و يظهر من نقل مجمع البيان عنه أنّه روى ذلك عن الصادق عليه السّلام:

ففي الوسائل عن مجمع البيان نقلا من تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام

في قوله تعالى: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمٰاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ. قال: «إنّه ما ابتلاه اللّه به في نومه من ذبح ولده إسماعيل فأتمّها إبراهيم و عزم عليها و سلّم لأمر اللّه فلما عزم قال اللّه تعالى له ثوابا (له لما صدّق و عمل بما أمره اللّه): إِنِّي جٰاعِلُكَ لِلنّٰاسِ إِمٰاماً. ثم أنزل عليه الحنيفية و هي عشرة أشياء: خمسة منها في الرأس و خمسة منها في البدن، فأمّا التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى و طمّ الشعر و السّواك و الخلال. و أمّا التي في البدن فحلق الشعر من البدن و الختان و تقليم الأظفار و الغسل من الجنابة و الطهور بالماء، فهذه الحنيفية الظاهرة التي جاء بها إبراهيم عليه السّلام فلم تنسخ و لا تنسخ إلى يوم القيامة، و هو قوله: اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرٰاهِيمَ حَنِيفاً.* «2»» و راجع مجمع البيان أيضا. «3»

أقول: ليس فيما عندي من تفسير علي بن إبراهيم ذكر الصادق عليه السّلام و نسبته إليه و لعلّه كان مذكورا في نسخة الطبرسي «ره». و على فرض ثبوت ذلك فالرواية

______________________________

(1) راجع نفس المصدر/ 50 (ط. أخرى 1/ 59). و الآية رقمها 124.

(2) الوسائل 1/ 423، كتاب الطهارة، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 5.

(3) راجع مجمع البيان 1/ 200، ذيل آية: وَ إِذِ ابْتَلىٰ إِبْرٰاهِيمَ رَبُّهُ ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 117

..........

______________________________

مرسلة فيشكل الاعتماد عليها.

و قوله: «الحنيفية الظاهرة» لعلّه إشارة إلى إرادة الحنيفية القلبيّة أيضا و هي تطهير القلب من الشرك و غرس شجرة التوحيد فيه، و يشهد بذلك قوله: حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1» و قوله: حَنِيفاً وَ مٰا كٰانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ* «2» فراجع.

و

الرواية مروية بطرق العامة أيضا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتفاوت ما: ففي الوضوء من سنن البيهقي بسنده عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عشر من الفطرة:

قصّ الشارب و إعفاء اللحية و السّواك و الاستنشاق بالماء و قصّ الأظفار و غسل البراجم و نتف الإبط و حلق العانة و انتقاص الماء- يعني الاستنجاء بالماء-.» قال زكريّا: قال مصعب: نسيت العاشرة إلّا أن تكون المضمضة. رواه مسلم في الصحيح. «3»

أقول: في النهاية: «فيه: «من الفطرة غسل البراجم» هي العقد التي في ظهور الأصابع يجتمع فيها الوسخ، الواحدة برجمة بالضمّ.» «4»

و ربما يناقش في الاستدلال بالرواية بأنّ اشتمالها على الأمور المندوبة مع وحدة السياق يقتضي حملها على الندب إلّا فيما ثبت بالدليل وجوبه كغسل الجنابة و الختان.

و يجاب عن ذلك بأنّ ظاهر الأمر الوجوب فيجب حمله على ذلك إلّا فيما ثبت خلافه، لا نقول: إنّ الصيغة وضعت للوجوب بحيث يكون إرادة الندب منها

______________________________

(1) سورة النحل (16)، الآية 120.

(2) نفس السورة، الآية 123.

(3) سنن البيهقى 1/ 52، كتاب الطهارة، باب سنّة المضمضة و ... رواه المسلم في صحيحه 1/ 223.

(4) النهاية لابن الأثير 1/ 113.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 118

..........

______________________________

مجازا، بل نقول: إنّها وضعت للبعث، و العقل يحكم بلزوم إتيان العبد لما أمر به المولى و استحقاقه للذمّ و العقاب على فرض المخالفة إلّا فيما ثبت الترخيص فيها، فالوجوب حكم العقل و موضوعه أمر المولى ما لم يرخص في خلافه. و التفكيك في فقرات الرواية بحمل البعض على الوجوب و البعض الآخر على الاستحباب ليس بعزيز في أخبارنا. هذا.

و يأتي البحث في معنى

إعفاء اللحى عند ذكر أخبار الباب، فانتظر.

الأمر الرابع: ما ورد في أخبار مستفيضة من طرق الفريقين من الأمر بإعفاء اللحى،

و ظاهر الأمر الوجوب:

1- ما في الوسائل عن الصدوق «ره» في الفقيه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبّهوا باليهود.» «1»

و الرواية مرسلة، و لكن يظهر من تعبير الصدوق «ره» اعتماده عليها، حيث أسندها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صريحا.

و يحتمل كونها عين الرواية التالية المروية عن المعاني و إن كان المذكور في إحداهما اليهود و في الأخرى المجوس فيكون أحدهما مصحّفا عن الآخر، و قد شاع من الصدوق أن يرسل في الفقيه ما أسنده في سائر كتبه.

قال في الوافي في بيان الرواية: «الحفّ: الإحفاء و هو الاستقصاء في الأمر و المبالغة فيه. و إحفاء الشارب: المبالغة في جزّه. و الإعفاء: الترك، و إعفاء اللحى أن يوفّر شعرها من عفى الشي ء: إذا كثر و زاد. قوله عليه السّلام: «و أعفوا عن اللحى» أي لا تستأصلوها بل اتركوا منها و وفّروا. و قوله عليه السّلام: «و لا تتشبهوا باليهود» أي

______________________________

(1) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من ابواب آداب الحمام، الحديث 1؛ عن الفقيه 1/ 130.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 119

..........

______________________________

لا تطيلوها جدّا و ذلك لأنّ اليهود لا يأخذون من لحاهم بل يطيلونها.» «1»

أقول: في الفقيه و الوسائل: «أعفوا اللحى» و في الوافي: «أعفوا عن اللحى» و الظاهر أنّ الصحيح هو الأوّل.

2- ما في الوسائل أيضا عن معاني الأخبار بسنده عن علي بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و اعفوا اللحى و

لا تشبّهوا بالمجوس.» «2»

و في السند رجال لم يثبت وثاقتهم و منهم علي بن غراب.

3- و في الوسائل أيضا عن الفقيه، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ المجوس جزّوا لحاهم و وفّروا شواربهم، و إنّا نحن نجزّ الشوارب و نعفي اللحى و هي الفطرة.» «3»

4- و في البيهقى بسنده عن ابن عمر عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أعفوا اللحى و أحفوا الشوارب.» «4»

5- و فيه أيضا بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خالفوا المشركين:

وفّروا اللحى و أحفوا الشوارب.» «5»

6- و فيه أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «جزّوا الشوارب و أرخوا اللحى و خالفوا المجوس.» «6»

______________________________

(1) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 657)، أبواب قضاء التفث و التزيّن، باب جزّ اللحية ....

(2) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) سنن البيهقي 1/ 149، كتاب الطهارة، باب السنّة في الأخذ من الأظفار و الشارب.

(5) نفس المصدر و الباب ص 150.

(6) نفس المصدر و الباب ص 150.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 120

..........

______________________________

أقول: يحتمل أن يكون المراد بالمشركين في رواية ابن عمر أيضا المجوس لأنّهم كانوا يقولون باليزدان و الأهرمن.

7- و في الكامل لابن الأثير: أنّ رجلين قدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبل كسرى و قد حلقا لحاهما و أعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما و قال: «ويلكما من أمركما بهذا؟» قالا: ربّنا- يعنيان الملك-، فقال صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم: «لكن ربّي أمرني أن أعفي لحيتي و أقصّ شاربي.» «1»

و رواه في المستدرك «2» أيضا عن الكازروني في المنتقى.

أقول: يمكن أن يناقش في الاستدلال بهذه الروايات:

أوّلا: بضعفها سندا، إلّا أن يقال بأنّ استفاضة نقل هذا المضمون عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بطرق الفريقين، و إسناد الصدوق «ره» ما نقله إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صريحا مما يوجبان الوثوق و الاطمينان بصدوره إجمالا عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و ثانيا: بأنّ إعفاء اللحية- كما مرّ عن الوافي- بمعنى تركها و توفيرها، و هذا ليس بواجب قطعا، و إنّما الواجب- على القول به- أصل إبقاء اللحية بحيث يصدق عرفا أنّه ذو لحية، و على هذا فيحمل الأمر بالإعفاء على الندب كما يحمل الأمر بحف الشوارب عليه، و كما يحمل النهى عن التشبه باليهود على الكراهة، حيث إنّهم كانوا يطيلونها، فيكون مفاد الروايات استحباب توفيرها و لكن لا بحدّ تتجاوز القبضة، و يشهد لذلك وحدة السياق أيضا، فتأمّل. هذا.

و لكن لأحد أن يقول: حيث إنّ توفير الشعر مستلزم لإبقائه و عدم حلقه فلعلّ

______________________________

(1) الكامل في التاريخ 2/ 214، في أحداث سنة ستّ من الهجرة.

(2) راجع مستدرك الوسائل 1/ 59 (ط. أخرى 1/ 407)، الباب 40 من أبواب آداب الحمام، ذيل الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 121

..........

______________________________

مقصود المتكلم من الأمر بالتوفير الأمر بإبقائه في أظهر مصاديقه و أفضلها فينحلّ الأمر إلى واجب و مستحب: أصل الإبقاء و توفيره.

و بعبارة أخرى: قصد المتكلم بيان اللازم و الملزوم معا بعبارة واحدة، و لعلّه إلى ذلك أشار صاحب الوافي

حيث قال: «فذكر الإعفاء عقيب الإحفاء ثم النهي عن التشبه باليهود دليل على أنّ المراد بالإعفاء أن لا يستأصل و يؤخذ منها من دون استقصاء بل مع توفير و إبقاء بحيث لا تتجاوز القبضة فتستحقّ النار.» «1»

اللّهم إلّا أن يقال: إنّ مجرد احتمال قصد الأمرين معا لا يصير حجة يستدلّ بها.

و ثالثا: بأنّه من المحتمل أن تكون الروايات ناظرة إلى النهي عمّا شاع عملا بين المجوس من فتل الشوارب و حلق اللحى كما يشهد بذلك قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في رواية علي ابن غراب: «و لا تشبّهوا بالمجوس» و في رواية أبي هريرة: «و خالفوا المجوس.»

و على هذا فالمأمور به- في الحقيقة- مخالفة المجوس، و المحرّم هو التشبه بهم في زيّهم و قيافتهم فلا تدلّ الروايات على حرمة حلقهما معا. بل يمكن أن يقال: إنّه إذا فرض كون الحرمة بلحاظ صدق عنوان التشبّه بالمجوس كانت- بحسب الحقيقة- حكما ثانويا دائرا مدار صدق هذا العنوان فإذا زال هذا العنوان الثانوي- كما في أعصارنا- لم يكن محرما، فتدبّر.

الأمر الخامس: ما عن الكافي بسنده عن حبابة الوالبية،

قالت: رأيت أمير المؤمنين عليه السّلام في شرطة الخميس و معه درة لها سبابتان يضرب بها بيّاعي الجرّي

______________________________

(1) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 658)، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 122

..........

______________________________

و المارماهي و الزمّار و يقول لهم: «يا بيّاعي مسوخ بني إسرائيل و جند بني مروان.»

فقام إليه فرات بن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين و ما جند بني مروان؟ قال: فقال له: «أقوام حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمسخوا.» «1»

قال المجلسي «ره» في مرآة العقول في ذيل الرواية: «حبابة-

بفتح الحاء و تخفيف الباء- و منهم من يشدّه و لعلّه تصحيف. و الوالبية نسبة إلى والبة: موضع بالبادية من اليمن.» و في النهاية: الشرطة: أوّل الطائفة من الجيش تشهد الواقعة.

و الخميس: الجيش سمّي به لأنّه مقسوم بخمسة أقسام: المقدمة و الساقة و الميمنة و الميسرة و القلب. و قيل: لأنه تخمس فيه الغنائم. انتهى. و الدرّة- بكسر الدال و تشديد الراء-: السوط، و السبابة- بالتخفيف-: رأس السوط، و الجرّيّ- بكسر الجيم و تشديد الرّاء و الياء-: نوع من السمك لا فلوس له، و كذا المارماهي- بفتح الراء- و كذا الزمّار- بكسر الزاء و تشديد الميم-.» «2» انتهى ما حكيناه عن مرآة العقول.

و تقريب الاستدلال بهذه الرواية أنّه عليه السّلام فرّع على حلقهم اللحى و فتلهم الشوارب مسخهم، و مثل هذه العقوبة الشديدة لا تترتب إلّا على ارتكاب أمر محرّم، فيكون حلق اللحية حراما.

و يرد على هذا الاستدلال أوّلا: ضعف الرواية و اشتمال سندها على مجاهيل.

و قول الكليني في ديباجة الكافي: «بالآثار الصحيحة عن الصادقين عليهم السّلام و السنن

______________________________

(1) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 4؛ عن الكافي 1/ 346.

(2) مرآة العقول 4/ 78، كتاب الحجة، باب ما يفصل به بين دعوى المحقّ و المبطل في أمر الإمامة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 123

..........

______________________________

القائمة التي عليها العمل» لا يجوّز الحكم بصحّة جميع ما فيه من الروايات، إذ المتتبع فيه يعثر كثيرا على أخبار يقطع بكذب مضامينها أو إعراض الأصحاب عنه عملا، و اعتقاد الكليني بصحّة الرواية ليس من الحجج الشرعية، إذ ليس هو معصوما عندنا، و إن كان أصل قداسته و خلوصه و عظم خدمته بالإسلام و التشيع إجمالا

مما لا مجال لإنكارها. كما أنّ كونه في عصر النوّاب الأربعة لا يوجب الحكم بصحة كلّ ما رواه، بل الظاهر عدم خلطته معهم و إلّا لروى في كتابه من أخبارهم و التوقيعات الواردة عليهم كثيرا، و لم يظهر لنا وجه عدم خلطته معهم و عدم نقله منهم.

و ثانيا: أنّ كون حلق اللحية موجبا للمسخ يقتضي كونه من الكبائر، إذ هو عقاب و عذاب شديد يناسب الذنوب الكبار و يشكل الالتزام بكونه منها، و لأجل ذلك ربما يتوهم أنّ المراد بالمسخ هنا كون نفس هذه القيافة الحاصلة بحلق اللحية و فتل الشارب نحو مسخ، و لكن هذا مضافا إلى كونه خلاف الظاهر مخالف لمفاد الرواية، إذ الظاهر منها أنّهم مسخوا بصورة الحيتان المذكورة.

و ثالثا: لم يظهر لنا معنى جند بني مروان، حيث إنّ هذا الاسم يشابه اسماء الرجال المعاصرين لأمير المؤمنين عليه السّلام لا أسماء الأمم السالفة.

و رابعا: يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من الرواية كون مسخهم متفرعا على حلق اللحى و فتل الشوارب معا، فالمتيقن من الحرمة صورة تحققهما معا كما في فعل المجوس فلا تدلّ على حرمة حلق اللحية فقط، اللّهم إلّا أن يقال: إنّ الإجماع قائم على عدم حرمة فتل الشوارب فلا محالة يكون المسخ عقوبة على خصوص حلق اللحية، أو يقال: إنّ الظاهر من الرواية كون كلّ واحد من الفعلين مرجوحا لا أنّ المرجوح هو اجتماعهما معا بحيث يعدّان معا موضوعا واحدا.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 124

..........

______________________________

و خامسا: أنّ حرمة حلق اللحية في الأديان السالفة لا تقتضي حرمته في شرعنا أيضا. فإن قلت: ذكره عليه السّلام ذلك في مقام الذمّ يدلّ على حرمتهما في هذه الشريعة أيضا، قلت: ليس الإمام

عليه السّلام في مقام ذمّ هذين الفعلين بل في مقام ذمّ بيع المسوخ بهذا السبب، كما أنّ مسوخ بني إسرائيل مسخوا لصيد السبت و ذكرهم لا يدلّ على تحريمه علينا. و قد تعرّض لهذا السؤال و الجواب المجلسي «ره» في مرآة العقول في ذيل هذا الحديث، فراجع. «1» و قد نقلنا كلامه في أوائل المسألة.

الأمر السادس: ما رواه ابن إدريس في آخر السرائر

نقلا من جامع البزنطي صاحب الرضا عليه السّلام قال: و سألته عن الرجل هل يصلح له أن يأخذ من لحيته؟

قال: «أمّا من عارضيه فلا بأس و أمّا من مقدّمها فلا.»

و رواه الحميري في قرب الإسناد عن عبد اللّه بن الحسن، عن علي بن جعفر، عن أخيه مثله.

و رواه علي بن جعفر في كتابه إلّا أنّه قال في آخره: «فلا يأخذ.» «2»

قال في الوسائل بعد نقله: «هذا محمول على عدم الزيادة على قبضة لما يأتي إن شاء اللّه.»

أقول: ليس في السرائر المطبوع كلمة «يصلح» بل فيه بطبعيه: «هل له».

و كيف كان فسند ابن إدريس إلى البزنطي غير واضح لنا، و لكن لصاحب الوسائل إلى كتاب علي بن جعفر سند صحيح، و على هذا فالرواية صحيحة، و لذا اعتمد

______________________________

(1) راجع نفس المصدر 4/ 79.

(2) الوسائل 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث 5؛ عن السرائر/ 477 (ط. أخرى 3/ 574)؛ و عن قرب الإسناد/ 122.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 125

..........

______________________________

عليها في مصباح الفقاهة «1» و حكم بأنّها العمدة في الدلالة على حرمة حلق اللحية و أخذها و لو بالنتف و نحوه. هذا.

و لكن الاستدلال بالرواية على حرمة الحلق مبني على كون المراد من الأخذ من لحيته أو من مقدّمها هو الحلق و هو غير واضح،

بل الظاهر منه تقصيرها و إصلاحها، و حمل الأخذ من العارض على الإصلاح و من مقدمها على الحلق مخالف للظاهر جدا.

و ظاهر الرواية عدم جواز الأخذ من مقدمها مطلقا و لا يلتزم بذلك أحد و لا سيما فيما إذا جاوزت عن القبضة كما أشار إلى ذلك صاحب الوسائل.

فالأولى حملها على الندب و يراد بها ما مرّ في أخبار مستفيضة من الأمر بإعفاء اللحية و توفيرها، غاية الأمر أنّه فصّل هنا بين العارضين و بين المقدم لكون ذلك أجمل و أزين.

و يشهد لذلك ما رواه سدير الصيرفي، قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام يأخذ عارضيه و يبطّن لحيته. «2» و من الواضح أنّه عليه السّلام لم يكن يحلق عارضيه بالكليّة.

و في رواية محمد بن مسلم قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام و الحجّام يأخذ من لحيته فقال: «دوّرها.» «3»

و في رواية درست عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: مرّ بالنبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجل طويل اللحية فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما كان على هذا لو هيّأ من لحيته؟» فبلغ ذلك الرجل فهيّأ بلحيته بين اللحيتين ثم دخل على النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما رآه قال: «هكذا فافعلوا.» «4»

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 261، حرمة حلق اللحية.

(2) الوسائل 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث 4.

(3) نفس المصدر، الحديث 1.

(4) نفس المصدر، الحديث 3.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 126

..........

______________________________

يظهر من كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الأولى و الراجح هو اللحية بين اللحيتين يعني بين القصيرة و الطويلة و إن كان يصدق على الجميع عنوان اللحية.

و بما ذكرنا

يظهر عدم جواز الاستدلال برواية البزنطي على جواز ما شاع في عصرنا من حلق العارضين و إبقاء ما على الذقن. لما مرّ من عدم كون المراد من الأخذ منها حلقها بالكلية. و قد مرّ في صدر المسألة أنّ اللحية اسم لمجموع ما تنبت على الطرفين و على الذقن.

الأمر السابع: ما رواه في الجعفريات بإسناده عن جعفر بن محمد،

عن أبيه، عن جدّه علي بن الحسين، عن أبيه، عن علي بن أبي طالب عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حلق اللحية من المثلة، و من مثّل فعليه لعنة اللّه.» «1» و رواه عنه في المستدرك. «2»

بتقريب أنّ المثلة و هو قطع الأعضاء حرام قطعا كما يشهد بذلك لعنه من قبل اللّه تعالى، و مقتضى الرواية كون حلق اللحية بحكمها.

أقول: يرد على ذلك أوّلا: أنّه لم يظهر لنا حجية الكتاب حتى يعتمد عليه في إثبات حكم شرعي.

و محصّل الكلام أنّ كتاب الجعفريات- و يقال له: الأشعثيات أيضا لكون الراوي له محمد بن محمد بن الأشعث الكوفي- جاء به بعض السّادة الأجلّة من الهند إلى مشهد أمير المؤمنين عليه السّلام في السنة 1279 ه. ق على ما هو المذكور في

______________________________

(1) الجعفريات/ 157، باب السنّة في حلق الشعر ....

(2) راجع مستدرك الوسائل 1/ 59 (ط. أخرى 1/ 406)، الباب 40 من أبواب آداب الحمام ...، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 127

..........

______________________________

أوّل المطبوع منه. «1»

و ابن الأشعث المذكور روى رواياته عن موسى بن إسماعيل بن موسى ابن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام.

و في تنقيح المقال في إسماعيل بن موسى بن جعفر عليه السّلام ما ملخصه: «قال النجاشي في حقّه: سكن مصر و ولده بها. و له كتب

يرويها عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام و مثله في الفهرست بتفاوت يسير. و بالجملة فلا ينبغي الشبهة في كون الرجل صحيح العقيدة فإن لم نعدّ رواياته في الصّحاح فلا أقلّ من كونها من أعلى الحسان.» «2»

و لكن قال في ولده موسى بن إسماعيل ما ملخّصه: «يستفاد ممّا ذكره الشيخ في الفهرست و النجاشي في رجاله كونه من علماء الإمامية، لكن في كفاية هذا المقدار في إدراجه في الحسان تأمّلا.» «3»

و على هذا فلم يثبت كون موسى بن إسماعيل موثوقا به، مضافا إلى أنّ الكتاب- على ما مرّ- جي ء به أخيرا من الهند و لم يعلم كونه مسندا مقروّا على المشايخ في جميع الطبقات، فيشكل الوثوق بكون ذلك عين الكتاب الذي رواه موسى ابن إسماعيل عن أبيه عن آبائه عليهم السّلام بلا تصحيف أو تحريف فيه، و بالجملة يشكل الحكم بصحّة الرواية سندا.

و ثانيا: على فرض صحّتها سندا لا مجال للاستدلال بها في المقام، إذ المثلة- على ما يظهر من أهل اللغة و موارد استعماله- عبارة عن قطع أعضاء الغير تنكيلا و

______________________________

(1) راجع الجعفريات/ 2.

(2) تنقيح المقال 1/ 145.

(3) نفس المصدر 3/ 252.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 128

..........

______________________________

عقوبة له، فيكون مفاد الرواية أنّ حلق لحية الغير أيضا جبرا عليه و بدون اختياره نحو عقوبة و تنكيل له، فلا تشمل حلق الرجل لحية نفسه أو لحية غيره برضاه.

قال ابن الأثير في النهاية: «فيه: أنه نهى عن المثلة، يقال: مثلت بالحيوان أمثل به مثلا: إذا قطعت أطرافه و شوّهت به، و مثلت بالقتيل: إذا جدعت أنفه، أو أذنه، أو مذاكيره أو شيئا من أطرافه، و الاسم: المثلة. فأمّا مثّل بالتشديد فهو للمبالغة، و منه

الحديث: «نهى أن يمثّل بالدوابّ» أي تنصب فترمى أو تقطع أطرافها و هي حيّة.» «1»

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بهذه الرواية بما ملخصه: «أوّلا:

أنّها مجهولة السند. و ثانيا: أنّ المثلة هو التنكيل بالغير بقصد هتكه و إهانته، و ثالثا: بأنّ اللعن كما يجتمع مع الحرمة فكذلك يجتمع مع الكراهة أيضا. و يدلّ على هذا ورود اللعن على فعل المكروه في موارد عديدة، و من تلك الموارد ما في وصية النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام، قال: يا علي لعن اللّه ثلاثة: آكل زاده وحده و راكب الفلاة وحده و النائم في بيت وحده.» «2»

الأمر الثامن: أنّ في حلق اللحية تشبّها بالمجوس و سائر الكفار

و مشاكلة لهم، و يظهر من بعض الأخبار حرمة مشاكلة أعداء اللّه و السّلوك في مسالكهم:

1- فعن التهذيب بإسناده عن الصفّار، عن إبراهيم بن هاشم، عن النوفلي، عن السّكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام، قال: «أوحى اللّه إلى نبيّ من الأنبياء أن قل لقومك: لا تلبسوا لباس أعدائي و لا تطعموا مطاعم أعدائي

______________________________

(1) النهاية 4/ 294.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 259، حرمة حلق اللحية.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 129

..........

______________________________

و لا تشاكلوا بما شاكل أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.» «1»

و السند ممّا لا بأس به، إذ قد أفتى الأصحاب في الأبواب المختلفة بما رواه النوفلي عن السكوني و إن كان لعلماء الرجال فيهما كلاما، فراجع. و اسم السكوني إسماعيل بن مسلم و كنية أبيه أبو زياد، و له روايات كثيرة عن الصادق عليه السّلام.

2- و عن الفقيه بإسناده عن إسماعيل بن مسلم، عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّه أوحى اللّه إلى نبيّ من أنبيائه: قل للمؤمنين، لا تلبسوا لباس

أعدائي و لا تطعموا مطاعم أعدائي و لا تسلكوا مسالك أعدائي فتكونوا أعدائي كما هم أعدائي.»

و رواه في العلل عن محمد بن الحسن، عن الصفار، عن العباس بن معروف، عن النوفلي، عن السكوني.

و رواه في عيون الأخبار، عن تميم بن عبد اللّه بن تميم القرشي، عن أبيه، عن أحمد بن علي الأنصاري، عن عبد السّلام بن صالح الهروي، عن الرضا عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تلبسوا» و ذكر مثله. «2»

أقول: الظاهر حمل النهي في هذه الروايات على الحرمة- كما هي ظاهره- و لا محالة يراد بها صورة رفض المسلم هويّة نفسه و استقلاله و جعل نفسه تابعا محضا لأعداء اللّه بحيث يعدّ من مواليهم، و ذلك بأن يكون لهم لباس أو زيّ أو شكل أو طعام أو عمل خاصّ يعدّ من خصائصهم و من شعاراتهم الخاصّة فأراد قوم من المسلمين التشبه بهم في ذلك و التبعية المحضة لهم بنحو يوجب تقوية جبهة الكفر في قبال الإسلام.

______________________________

(1) الوسائل 11/ 111، الباب 64 من أبواب جهاد العدوّ و ما يناسبه.

(2) نفس المصدر 3/ 279، الباب 19 من أبواب لباس المصلّي، الحديث 8.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 130

..........

______________________________

و أمّا مجرّد الاتصاف بوصف من أوصافهم أو اتخاذ زيّ من أزيائهم من دون أن يقصد التشبه بهم أو متابعتهم فلا مجال للقول بحرمته و لا سيّما إذا صار الوصف أو الزيّ أو اللباس الخاصّ عامّا شائعا بين جميع الأمم و لا يرى من خصائص الكفار و شعاراتهم الخاصة.

و يشهد لذلك ما في نهج البلاغة: و سئل عليه السّلام عن قول رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: «غيّروا الشيب و لا تشبّهوا باليهود.» فقال عليه السّلام: «إنما قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك و الدين قلّ فأمّا الآن و قد اتسع نطاقه و ضرب بجرانه فامرؤ و ما اختار.» «1» و رواه عنه في أبواب آداب الحمام من الوسائل. «2»

فصدق التشبه يختلف بحسب اختلاف الأزمنة.

الأمر التاسع: إطلاق ما دلّ على حرمة تشبّه الرجال بالنساء و النساء بالرجال،

مثل ما عن الكافي بسند فيه ضعف عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- في حديث-: «لعن اللّه المحلّل و المحلّل له ... و المتشبهين من الرجال بالنساء و المتشبهات من النساء بالرجال. الحديث.» «3»

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 3، ص: 130

بتقريب أنّ حلق اللحية من أظهر مصاديق تشبّه الرجال بالنساء، و اللعن على فعل دليل على حرمته.

و قد مرّ في أوّل المسألة أنّ اللحية في الرجال ممّا ميّزهم اللّه تعالى بها عن النساء و جعلها زينة و جمالا لهم.

______________________________

(1) نهج البلاغة فيض/ 1094؛ عبده 3/ 154؛ لح/ 471، الحكمة 17.

(2) راجع الوسائل 1/ 403، الباب 44 من أبواب آداب الحمام، الحديث 2.

(3) نفس المصدر 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 131

..........

______________________________

و مرّ عن البحار حديث تزيين آدم باللحية، فراجع.

و فيه أيضا نقلا عن توحيد المفضّل عن الصادق عليه السّلام في خلقة الإنسان قال:

«فإذا أدرك و كان ذكرا طلع الشعر في وجهه فكان ذلك علامة الذكر و عزّ الرجل الذي يخرج به من حدّ الصبا و شبه النساء. و

إن كانت أنثى يبقى وجهها نقيّا من الشعر لتبقى لها البهجة و النضارة ... و لو لم يخرج الشعر في وجهه في وقته أ لم يكن سيبقى في هيئة الصبيان و النساء، فلا ترى له جلالة و لا وقارا؟

الحديث.» «1»

فيظهر من الحديث أنّ اللحية توجب عزّ الرجل و جلاله و وقاره، و أنّ حلقها بنحو تشبه قيافته قيافة النساء أمر مرجوح.

أقول: أمّا حديث تشبّه الرجال بالنساء فقد مرّ البحث فيه في مسألة تزيّن كلّ من الرجل و المرأة بما يختصّ بالآخر. «2» و قال الشيخ هناك: «إنّ الظاهر من التشبه تأنّث الذكر و تذكّر الأنثى.» قال: «و يؤيده المحكي عن العلل أنّ عليّا عليه السّلام رأى رجلا به تأنيث في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال له: اخرج من مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: لعن اللّه ... «3» و في رواية يعقوب بن جعفر- الواردة في المساحقة-: أنّ فيهن قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لعن اللّه المتشبهات بالرجال من النساء ...» «4» إلى آخر ما مرّ في متن المكاسب، «5» حيث يظهر من جميع ذلك عدم إرادة الإطلاق في حديث التشبّه، فراجع.

______________________________

(1) بحار الأنوار 3/ 62 و 63، كتاب التوحيد، الباب 4.

(2) راجع دراسات في المكاسب المحرّمة 2/ 502.

(3) راجع الوسائل 12/ 211، الباب 87 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(4) نفس المصدر 14/ 262، الباب 24 من أبواب النكاح المحرّم، الحديث 5.

(5) راجع مكاسب الشيخ الأعظم الأنصاري/ 22؛ و دراسات في المكاسب المحرّمة 2/ 504 و

ما بعدها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 132

..........

______________________________

و كون حلق الرجل لحيته موجبا لصدق عنوان التأنّث عليه واضح المنع، اللّهم إلّا أن يكون حلقها بهذا الداعي.

و أمّا رواية تزيين آدم عليه السّلام باللحية و رواية المفضل فهما و إن دلّتا على مرجوحية حلق اللحية و كونه مرغوبا عنها لكن كونها في حدّ حرمة الفعل شرعا غير واضح، فتدبّر.

الأمر العاشر: استقرار سيرة المتشرعة

من جميع فرق المسلمين في جميع الأعصار إلى عصر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث إنّهم كانوا يلتزمون عملا بإبقاء اللحية و ينكرون حلقها و يذمّون حالقها بل يعاملون معه معاملة الفسّاق.

قال آية اللّه الطبسي- طاب ثراه- في المنية في بيان هذا الدليل ما ملخّصه:

«السّادس: السيرة القطعية في جميع الأدوار و الأعصار قولا و عملا من زمان آدم عليه السّلام إلى زمان خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى زماننا هذا من جميع الطبقات على اختلافها: من الأنبياء و الأوصياء، و الأولياء و الصالحين على حفظ هذه الهيئة الخاصّة. و لا يوجد في أيّ تاريخ من تواريخ الأمم أنّ واحدا من الموحّدين و الأولياء و الخلفاء الراشدين و الأئمة الطاهرين سلام اللّه عليهم أجمعين صدر عنه هذا العمل و لو مرّة واحدة في عمره، و لو أنت أمعنت النظر في طبقات الناس طبقة بعد أخرى من رؤساء المذاهب و مراجع الإسلام من العامّة و الخاصّة بل القسيسين و الرهبان و علماء اليهود و غيرهما من الملل و الأديان كالصابئة لرأيت بأمّ عينك اهتمام الكلّ في حفظ هذه الهيئة- إلى أن قال:- و خلاصة القول أنّ اهتمام سائر الطبقات من أيّ ملة و دين في حفظ هذه الهيئة في جميع العصور

و الأزمان

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 133

..........

______________________________

كاشف قطعي عن محبوبيتها و مبغوضية خلافها عند اللّه و رسوله.» «1» انتهى.

أقول: ربما يناقش في السيرة المذكورة بعدم إحراز انتهائها إلى عصر المعصومين عليهم السّلام حتّى يستدلّ بتقريرهم لها فلعلّها حدثت في الأعصار المتأخرة بلحاظ فتاوى المتأخرين بالحرمة و شيوع آرائهم بين المتشرعة و لعلّ اهتمام الجميع لحفظ الهيئة كان من جهة استحبابها المؤكّد، و الاستمرار العملي لا يدلّ على وجوب العمل. و ممّا يؤيد ذلك عدم تعرّض القدماء من أصحابنا للمسألة فيما بأيدينا من كتبهم كما مرّ بيان ذلك في مقام الجواب عن الإجماع المدّعى فيها.

هذا.

فهذه إلى هنا عشرة أمور أقيمت على حرمة حلق اللحية، و قد تعرّضنا للمناقشات فيها، و الأصل الأوّلي يقتضي الجواز. و لكن بعد اللّتيا و الّتي يشكل الجرأة على الإفتاء بالجواز، و لا سيّما بلحاظ ما مرّ من استفاضة الأمر بإعفاء اللحى و الاطمينان بصدور هذا المضمون عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تعبيره عن ذلك بأنها الفطرة، و ما مرّ من النهي عن الأخذ من مقدمها، و استقرار سيرة المتشرّعة على إبقاء اللحية و ارتكاز الحرمة و المذمومية في أذهانهم، فلا يترك الاحتياط بالاجتناب.

و لكن لا يخفى أنّ حرمته- على القول بها- تكون كسائر الحرمات التي تسقط عند الاضطرار أو الإكراه أو المزاحمة بما هو مساو أو أهمّ، فتدبّر.

و لا يخفى أيضا أنّ المستفاد مما مرّ من الأخبار و من سيرة المتشرعة- على فرض تسليم ذلك- هو وجوب إبقاء اللحية بحيث يصدق على الشخص أنّه ذو لحية.

فلا فرق في المنع بين حلقها أو نتفها أو جزّها أو غير ذلك مما يوجب إزالة الشعر.

______________________________

(1) المنية

في حكم الشارب و اللحية/ 55.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 134

..........

______________________________

و قد مرّ في أوّل البحث أنّ اللحية عبارة عما ينبت على اللحيين من غير فرق بين ما ينبت على الذقن أو على الطرفين. فيشكل جواز ما شاع في عصرنا من حلق الطرفين بالكلية و إبقاء ما على الذقن فقط.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 135

تذنيبان:
التذنيب الأوّل: حكم ما زاد عن القبضة من اللحية

______________________________

يستفاد من بعض الأخبار المنع عن تجاوز اللحية عن القبضة، و قد عنون المسألة في الوسائل هكذا: «باب استحباب قصّ ما زاد عن قبضة من اللحية.» «1»

1- رواية معلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ما زاد من اللحية عن القبضة فهو في النار.» «2»

2- رواية محمد بن أبي حمزة، عمن أخبره، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «ما زاد على القبضة ففي النار.» يعنى اللحية. «3»

3- رواية يونس، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «تقبض بيدك على اللحية و تجزّ ما فضل.» «4»

قال في الوافي: «قيل: المراد بالقبض على لحيته أن يضع يده على ذقنه فيأخذه بطرفيه فيجزّ ما فضل من مسترسل اللحية طولا، لا القبض مما تحت الذقن.» «5»

______________________________

(1) راجع الوسائل 1/ 420، كتاب الطهارة، الباب 65 من أبواب آداب الحمام.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) نفس المصدر، الحديث 1.

(4) نفس المصدر، الحديث 3.

(5) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 656)، كتاب الطهارة و التزين، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 136

..........

______________________________

أقول: لا ندري من هو القائل بهذا القول و ما هو الدليل عليه «1» و إن كان ما ذكره أقرب إلى الاعتبار.

4-

و قد مرّ في هذا المجال أيضا رواية درست عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: مرّ بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجل طويل اللحية فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما كان على هذا لو هيّأ من لحيته؟» فبلغ ذلك الرجل فهيأ بلحيته بين اللحيتين، ثم دخل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلما رآه قال:

«هكذا فافعلوا.» «2»

5- رواية الحسن الزيات، قال: رأيت أبا جعفر عليه السّلام قد خفّف لحيته. «3»

أقول: عمل أبي جعفر عليه السّلام لا يدلّ على وجوب ما عمله و لا على استحبابه و لكن يدلّ على جواز التخفيف بأخذ بعض اللحية.

6- و في الجعفريات بسنده عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه كان يقول: «خذوا من شعر الصدغين و من عارضي اللحية، و ما جاوز القبضة من مقدم اللحية فجزّوه.» «4»

7- و عن الترمذي، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأخذ من لحيته من عرضها و طولها. «5»

8- و عن ابن عمر أنّه كان يقبض على لحيته ثم يقص ما تحت القبضة. «6»

______________________________

(1) الظاهر أنّ القائل به هو السيّد الداماد «ره». قاله في شارع النجاة/ 107 و استدلّ له بكلمات أهل اللغة في معنى اللحية و اللحى.

(2) الوسائل 1/ 419، الباب 63 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(4) الجعفريات/ 157، باب السنّة في حلق الشعر ....

(5) راجع «الرسائل الأربعة عشرة» من منشورات مؤسسة النشر الإسلامي- رسالة حرمة حلق اللحية لآية اللّه البلاغي «ره»، ص 157.

(6) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3،

ص: 137

..........

______________________________

9- و عن أبي هريرة أنّه كان يقبض على لحيته فيأخذ ما فضل عن القبضة. «1»

10- و في رواية عبد الأعلى عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يعتبر عقل الرجل في ثلاث: في طول لحيته و في نقش خاتمه و في كنيته.» «2»

أقول: فبلحاظ هذه الأخبار المستفيضة يكون أصل جواز التخفيف و الأخذ لما زاد على القبضة بل استحباب ذلك مما لا إشكال فيه و بها يقيّد إطلاق أخبار الإعفاء، و لكن الظاهر مما دلّ على كون الزائد في النار هو حرمة إبقائه و لم نر من يفتي بذلك. و لعلّ النظر في هذه الروايات إلى من كان يريد بذلك التشبّه باليهود أو رئاء الناس و تغريرهم بلحيته كما قد يرى في أعصارنا من بعض من يتكلّف لإدخال نفسه في عداد أهل الفضل بهذه الوسيلة.

التذنيب الثاني: حكم الشارب

لا يخفى أن من السنن المؤكّدة الأخذ من الشارب و إحفائه، و قد ورد بذلك أخبار مستفيضة بل متواترة معنى أو إجمالا بحيث يعلم بصدور بعضها لا محالة، فإعفاؤها ناسبا ذلك إلى الشرع المبين أو بعض المعصومين عليهم السّلام تشريع محرّم أو افتراء بيّن:

1- ففى صحيحة علي بن جعفر عن أخيه عليه السّلام قال: سألته عن قصّ الشارب

______________________________

(1) نفس المصدر و الصفحة.

(2) الوسائل 1/ 421، الباب 65 من أبواب آداب الحمام، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 138

..........

______________________________

أمن السنّة؟ قال: «نعم.» «1»

2- و روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من السنة أن تأخذ من الشارب حتى يبلغ الإطار.» «2»

أقول: في النهاية: «و في حديث عمر بن عبد العزيز: «يقصّ الشارب حتى

يبدو الإطار.» يعني حرف الشفة الأعلى الذي يحول بين منابت الشعر و الشفة و كلّ شي ء أحاط بشي ء فهو إطار له.» «3»

3- و روى السكوني أيضا، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يطوّلنّ أحدكم شاربه فإنّ الشيطان يتخذه مخبأ يستتر به.» «4»

4- و عن العلل بسنده عن إسماعيل بن مسلم، عن جعفر بن محمد، عن آبائه عليهم السّلام، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا يطوّلنّ أحدكم شاربه و لا شعر إبطيه و لا عانته فإن الشيطان يتخذها مخبأ يستتر بها.» «5»

و قد مرّ أنّ السكوني اسمه إسماعيل بن مسلم، فالروايتان ترجعان إلى رواية واحدة و الأولى قطعة من الثانية.

5- و عن الكافي بسنده عن عبد اللّه بن عثمان أنّه رأى أبا عبد اللّه عليه السّلام أحفى شاربه حتى ألصقه بالعسيب.» «6»

قال في مجمع البحرين: «و في الحديث: أحفى شاربه حتى ألصقه بالعسيب،

______________________________

(1) الوسائل 1/ 421، الباب 66 من أبواب آداب الحمام، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 2.

(3) النهاية لابن الأثير 1/ 54.

(4) الوسائل 1/ 421، الباب 66 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(5) نفس المصدر و الباب، ص 422، الحديث 6.

(6) نفس المصدر و الباب و الصفحة، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 139

..........

______________________________

و هو منبت الشعر.» «1»

6- و عن مكارم الأخلاق عن الصادق عليه السّلام قال: «كان شريعة إبراهيم التوحيد و الإخلاص ... و زاده في الحنيفية: الختان و قصّ الشارب و نتف الإبط و تقليم الأظفار و حلق العانة. الحديث.» «2»

7- و فيه أيضا عنه عليه السّلام قال: «قال اللّه عزّ و جلّ لإبراهيم عليه السّلام: «تطهّر.» فأخذ

شاربه، ثم قال: «تطهّر.» فنتف من إبطيه: ثم قال: «تطهّر.» فقلم أظفاره، ثم قال: «تطهّر.» فحلق عانته، ثم قال: «تطهّر.» فاختتن.» «3»

8- و عن الخصال بسند معتبر عن الحسن بن الجهم قال: قال أبو الحسن موسى عليه السّلام: خمس من السنن في الرأس و خمس في الجسد. فأمّا التي في الرأس فالسواك و أخذ الشارب و فرق الشعر و المضمضة و الاستنشاق. الحديث.» «4»

9- و عن قرب الإسناد عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر، عن أبيه عليه السّلام: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ليأخذ أحدكم من شاربه و الشعر الذي من أنفه و ليتعاهد نفسه فإن ذلك يزيد في جماله.» «5»

10- و قد مرّ عن الصدوق في الفقيه أنّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبهوا باليهود.» «6»

و إسناده الكلام إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صريحا يدلّ على ثبوت الرواية عنده، و قد

______________________________

(1) مجمع البحرين/ 123 (ط. أخرى 2/ 121).

(2) الوسائل 1/ 422، الباب 66 من أبواب آداب الحمام، الحديث 7.

(3) نفس المصدر، الحديث 8 من الباب.

(4) نفس المصدر 1/ 350، الباب 1 من أبواب السواك، الحديث 23.

(5) نفس المصدر 1/ 424، الباب 68 من أبواب آداب الحمام، الحديث 2.

(6) نفس المصدر 1/ 423، الباب 67 منها. الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 140

..........

______________________________

مرّ منا أنّ كثرة نقل هذا المضمون عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوجب الوثوق بصدوره عنه.

و في الوافي في بيان الرواية قال: «الحفّ: الإحفاء، و هو الاستقصاء في الأمر و

المبالغة فيه، و إحفاء الشارب: المبالغة في جزّه.» «1»

11- و مرّ في رواية عليّ بن غراب، عن جعفر بن محمد، عن أبيه، عن جدّه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّوا الشوارب و أعفوا اللحى و لا تشبّهوا بالمجوس.» «2»

12- و مرّ عن الفقيه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ المجوس جزّوا لحاهم و وفّروا شواربهم، و إنّا نحن نجزّ الشوارب و نعفي اللحى و هي الفطرة.» «3»

13- و مرّ فيما رواه في مجمع البيان عن تفسير علي بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام في بيان حنيفية إبراهيم عليه السّلام قوله: «فأمّا التي في الرأس فأخذ الشارب و إعفاء اللحى. الحديث.» «4»

14- و مرّ في رواية حبابة الوالبية عن أمير المؤمنين عليه السّلام: فقام إليه فرات ابن أحنف فقال: يا أمير المؤمنين و ما جند بني مروان؟ قال: فقال له: «أقوام حلقوا اللحى و فتلوا الشوارب فمسخوا.» «5»

15- و في سنن البيهقي بسنده عن ابن عمر، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أعفوا اللحى

______________________________

(1) الوافي 1/ 99 من الجزء الرابع (ط. أخرى 6/ 657)، أبواب قضاء التفث و التزين، باب جزّ اللحية ....

(2) الوسائل 1/ 423، الباب 67 من أبواب آداب الحمام، الحديث 3.

(3) نفس المصدر و الصفحة، الحديث 2 من الباب.

(4) نفس المصدر، الحديث 5.

(5) نفس المصدر، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 141

..........

______________________________

و أحفوا الشوارب.» «1»

16- و فيه أيضا بسنده عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خالفوا المشركين: وفّروا اللحى و أحفوا الشوارب.» «2»

17- و

فيه أيضا بسنده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «جزّوا الشوارب و أرخوا اللحى و خالفوا المجوس.» «3»

أقول: قد مرّ منا احتمال أن يكون المراد بالمشركين في رواية ابن عمر أيضا المجوس لقولهم باليزدان و الأهرمن. و لم يعهد من مشركي مكة حلق اللحية و إعفاء الشارب.

18- و فيه أيضا بسنده عن عائشة، قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عشر من الفطرة: قصّ الشارب و إعفاء اللحية. الحديث.» «4»

19- و في سنن النسائي بسنده عن زيد بن أرقم قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «من لم يأخذ شاربه فليس منّا.» «5»

20- و مرّ عن الكامل: أنّ رجلين قدما على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبل كسرى و قد حلقا لحاهما و أعفيا شواربهما، فكره النظر إليهما و قال: «ويلكما من أمركما بهذا؟» قالا: ربّنا- يعنيان الملك-، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكن ربّي أمرني أن أعفي لحيتي و أقصّ شاربي.» «6»

______________________________

(1) سنن البيهقي 1/ 149، كتاب الطهارة، باب السنّة في أخذ من الأظفار و الشارب ....

(2) نفس المصدر و الباب، ص 150.

(3) نفس المصدر و الباب و الصفحة.

(4) نفس المصدر 1/ 52، كتاب الطهارة، باب سنّة المضمضة ....

(5) سنن النسائي 8/ 129، كتاب الزينة- إحفاء الشارب.

(6) الكامل في التاريخ 2/ 214، في أحداث سنة ستّ من الهجرة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 142

..........

______________________________

و رواه في المستدرك «1» أيضا عن الكازروني في المنتقى.

21- و في رسالة حرمة حلق اللحية للمرحوم آية اللّه البلاغي- طاب ثراه- عن الطبراني عن

الحكيم بن عمر (الحكم بن عمير) عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قصّوا الشوارب مع الشفاه.» «2»

22- و فيه عن المغيرة بن شعبة قال: ضفت النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كان شاربي وفاء فقصّه على سواك. و في رواية فوضع صلّى اللّه عليه و آله و سلّم السواك تحت الشارب و قصّ عليه. «3»

23- و فيه أيضا: أخرج البزاز عن عائشة: أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبصر رجلا و شاربه طويل فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ايتوني بمقصّ و سواك.» فجعل السواك على طرفه ثم أخذ ما جاوزه. «4»

24- و فيه أيضا عن أحمد عن أبي هريرة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعفوا اللحى و جزّوا الشوارب و غيّروا شيبكم و لا تشبّهوا باليهود و النصارى.» «5»

25- و فيه أيضا عن البيهقي عن أبي أمامة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وفّروا غثانينكم و قصّوا سبالكم.» «6»

26- و فيه أيضا عن أحمد و الطبراني و غيرهما عن أبي أمامة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قصّوا

______________________________

(1) راجع مستدرك الوسائل 1/ 59 (ط. أخرى 1/ 407)، الباب 40 من أبواب آداب الحمام، ذيل الحديث 2.

(2) راجع «الرسائل الأربعة عشرة»- رسالة حرمة حلق اللحية لآية اللّه البلاغي، ص 140.

(3) نفس المصدر و الصفحة.

(4) نفس المصدر و الصفحة.

(5) نفس المصدر، ص 142.

(6) نفس المصدر، ص 143.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 143

..........

______________________________

سبالكم و وفّروا غثانينكم و خالفوا أهل الكتاب.» ثم قال: «و السبال جمع سبلة- بفتح الباء- و هي الشّارب، و الغثنون: اللحية، و لعلّ

المراد من مخالفة أهل الكتاب مخالفة اليهود في إرسال لحاهم بلا إصلاح، و مخالفة النصارى في حلق لحاهم أو جزّها من أصولها، فيكون المراد من التوفير مصداقه الذي يخالف الأمرين.» «1»

أقول: و قد روي هذا المضمون بألفاظ أخر أيضا في كتب الحديث من الفريقين بحيث يحصل العلم بصدوره عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إجمالا و إن اختلف الألفاظ في ذلك، و حيث إنّ المسألة كانت مبتلى بها دائما فلعلّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كرّر ذكرها بألفاظ مختلفة.

و إنّما أطلنا الكلام في المقام لما نراه في عصرنا من التزام بعض طوائف الصوفية عملا- مع ادعائهم بالتزام الشرع- بإعفاء الشارب، و ينسبون ذلك إلى المعصوم عليه السّلام، و هذا من أظهر مصاديق التشريع المحرّم أو الافتراء.

و قد تمّ البحث في مسألة حلق اللحية و ملحقاتها في 3 صفر 1418 ه. ق، الموافق ل 19/ 3/ 1376 ه. ش. و الحمد للّه ربّ العالمين.

______________________________

(1) نفس المصدر، ص 144.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 145

[المسألة الثامنة: الرشوة]

اشارة

المسألة الثامنة: الرشوة حرام، و في جامع المقاصد و المسالك: أنّ على تحريمها إجماع المسلمين. (1)

______________________________

المسألة الثامنة: الرشوة

(1) أقول: يتعرّض المصنّف في هذه المسألة لحكم أجور القضاة و ارتزاقهم من بيت المال و حكم الهدايا للقضاة أيضا، و هل تختصّ الرشوة بباب القضاء و الحكم أو تشمل مطلق ما يعطى لحمل الغير على ما يريده المعطي؟. و هل تختصّ ببذل الأموال أو تعمّ الأعمال بل و الأقوال أيضا كمدح القاضي و الثناء عليه و كذا المعاملة المحاباتية معه و إعارته الأموال الثمينة و الوقف عليه و نحو ذلك ممّا يعود نفعه إليه؟. كلّ ذلك ممّا ينبغي البحث

فيه.

نقل بعض كلمات الأعلام في حرمة الرشوة

1- قال المحقّق في الشرائع: «الرشا حرام سواء حكم لباذله أو عليه بحقّ أو باطل.» «1»

أقول: لم يرد بذلك تعميم معنى الرشوة، و إنّما أراد بيان أنّ حرمتها- بأيّ

______________________________

(1) الشرائع 1/ 266، كتاب التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 146

..........

______________________________

معنى فسّرت- لا تختصّ بما إذا أثّرت في روح القاضي و عمله، بل تحرم عليه و إن لم تؤثّر فيه بل حكم بالحقّ و بضرر المعطي أيضا. و حيث إنّ البحث في المكاسب المحرّمة فالغرض بيان حرمتها للآخذ، و أكثر الأخبار أيضا ناظرة إلى ذلك. و أمّا حرمة إعطائها فمضافا إلى كونه إعانة للإثم يدلّ عليها الآية الشريفة كما يأتي بيانها و ما عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من لعن الراشي و المرتشي.

2- و في المسالك ذيّل عبارة الشرائع بقوله: «الرشا- بضمّ أوّله و كسره مقصورا- جمع رشوة- بهما- و هو أخذ الحاكم مالا لأجل الحكم، و على تحريمه إجماع المسلمين. و عن الباقر عليه السّلام: «أنّه الكفر باللّه- تعالى- و رسوله» و كما يحرم على المرتشي يحرم على المعطي لإعانته على الإثم و العدوان إلّا أن يتوقّف عليه تحصيل حقّه فيحرم على المرتشي خاصّة.» «1»

أقول: ظاهر تفسيره للرشا عمومه لما يعطى للحاكم أجرا لحكمه و لو بالحقّ مع أنّ الظاهر- كما يأتي- اختصاصه بما يعطى للحكم بنفع المعطي، و على فرض كون كلمة الرشا جمعا كما قال فإرجاع الضمير المفرد المذكّر إليه يحتاج إلى تأويل.

3- و في الجواهر ذيّل عبارة الشرائع بقوله: «إجماعا بقسميه و نصوصا مستفيضة أو متواترة.» «2»

4- و قال العلّامة في القواعد: «و يحرم الرشا في الحكم و إن حكم على باذله بحقّ أو باطل.»

«3»

5- و ذيّله في جامع المقاصد بقوله: «أجمع أهل الإسلام على تحريم الرشا في

______________________________

(1) المسالك 3/ 136، فيما يكتسب به.

(2) الجواهر 22/ 145.

(3) قواعد الأحكام للعلّامة 1/ 121، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 147

..........

______________________________

الحكم سواء حكم بحقّ أو باطل للباذل أو عليه.» «1»

6- و في قضاء المستند: «الثالثة: يحرم على القاضي أخذ الرشوة- مثلثة الراء- إجماعا من المسلمين.» «2»

أقول: حيث إنّ حرمة الرشوة ممّا يدلّ عليها الكتاب و السنّة المستفيضة بل المتواترة كما يأتي فمن المحتمل بل الظاهر كون مدرك الفتاوى الكتاب و السنّة و ليس الإجماع دليلا مستقلا في المسألة بعد هذا الاحتمال و لا يثبت به تلقّيهم المسألة يدا بيد عن المعصومين عليهم السّلام مع قطع النظر عن الآية و الأخبار الواردة. هذا.

ما هو معنى الرشوة؟

و أخبار المسألة لم تتعرّض لمعنى الرشوة و مفهومها فلنتعرّض لبعض كلمات أهل اللغة و غيرهم في هذا المجال:

1- قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «مجموع محتملات معنى الرشوة خمسة: مطلق الجعل المندرج فيه أجرة الأجراء، و الجعل على القضاء و تصدي فصل الخصومة، و الجعل على الحكم بالواقع لنفسه كان أو لغيره، و الجعل على الحكم لنفسه حقّا كان أو باطلا، و الجعل على الحكم بالباطل. و الأوّل ممّا ينبغي القطع ببطلانه ... و المتيقّن من بين بقية المعاني إن لم يكن هو الظاهر هو الأخير.» «3»

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 35، أوائل كتاب المتاجر.

(2) مستند الشيعة 2/ 526.

(3) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 26.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 148

..........

______________________________

أقول: الفرق بين المعاني الخمسة بالعموم و الخصوص إلّا في الثالث و الأخير أخصّها. و المعنى الأوّل يعمّ باب القضاء و غيره، و هو بإطلاقه غير

مراد قطعا، و الثاني و الثالث يرتبطان بباب أجور القضاة و هي غير الرشوة فيبقى للرشوة الرابع و الخامس و كلّ منهما محتمل، و يحتمل إلغاء خصوصيّة القضاء أيضا.

2- و في القاموس: «الرشوة- مثلثة-: الجعل ج رشى ... و الرشاء ككساء:

الحبل كالرشاء بالكسر.» «1»

أقول: الظاهر أنّ تفسيرها بالجعل من باب التعريف بالأعمّ نظير قولنا: «سعدانة نبت» و يحتمل أن يكون اللام للعهد إشارة إلى الجعل المخصوص المعهود في باب القضاء، و يشهد بذلك ما في الصحاح.

3- و في الصحاح: «الرشاء: الحبل و الجمع أرشية، و الرشوة معروفة، و الرشوة بالضم مثله و الجمع رشا و رشا.» «2»

4- و في المصباح المنير: «الرشوة بالكسر: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد ... و الرشاء: الحبل و الجمع أرشية مثل كساء و أكسية.» «3»

أقول: قوله: «أو يحمله على ما يريد» يحتمل أن يراد به حمل المعطي غير الحاكم على ما يريده فتشمل العبارة غير باب الحكم أيضا و يحتمل أن يراد به حمل الغير الحاكم على ما يريده المعطي فتختصّ بباب الحكم.

5- و قال ابن الأثير في النهاية: رشا- س- فيه: «لعن اللّه الراشي و المرتشي

______________________________

(1) قاموس اللغة/ 878.

(2) صحاح اللغة 6/ 2357.

(3) المصباح المنير 1/ 310.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 149

..........

______________________________

و الرائش.» الرشوة و الرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، و أصله من الرشاء الذي يتوصّل به إلى الماء. فالراشي: من يعطي الذي يعينه على الباطل. و المرتشي: الآخذ. و الرائش: الذي يسعى بينهما يزيد لهذا و يستنقص لهذا. فأمّا ما يعطى توصّلا إلى أخذ حقّ أو دفع ظلم فغير داخل فيه. روي أنّ ابن مسعود أخذ بأرض

الحبشة في شي ء فأعطى دينارين حتّى خلّى سبيله، و روي عن جماعة من أئمّة التابعين قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه و ماله إذا خاف الظلم.» «1»

أقول: ما استثناه أخيرا ليس خارجا من الرشوة موضوعا و إنّما يخرج منها حكما في ناحية المعطي فقط كما هو واضح. و قد خصّ الرشوة المحرّمة بما يعين على الباطل مع أنّ الظاهر شمولها لكلّ ما يعطى في قبال الحكم بنفع المعطي و إن فرض كون ادّعائه حقّا.

6- و في مجمع البحرين: «و الرشوة- بالكسر-: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره فيحكم له أو يحمله على ما يريد و الجمع رشى مثل سدرة و سدر، و الضم لغة، و أصلها من الرشاء: الحبل الذي يتوصّل به إلى الماء و جمعه أرشية ككساء و أكسية ... و الرشوة قلّ ما تستعمل إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.» «2»

7- و في المنجد: «الرشوة و الرشوة و الرشوة ج رشى و رشى: ما يعطى لإبطال حقّ أو إحقاق باطل ... الرشاء جمع أرشية: الحبل عموما أو حبل

______________________________

(1) النهاية لابن الأثير 2/ 226.

(2) مجمع البحرين 1/ 184.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 150

..........

______________________________

الدلو.» «1»

8- و في قضاء المستند- بعد الحكم بحرمة الرشوة- قال: «لا كلام في أنّ الرشوة للقاضي هي المال المأخوذ من أحد الخصمين أو منهما أو من غيرهما للحكم على الآخر أو إهدائه أو إرشاده في الجملة. إنّما الكلام في أنّ الحكم أو الإرشاد المأخوذين في ماهيّته هل هو مطلق شامل للحقّ أو الباطل أو يختصّ بالحكم بالباطل؟ مقتضى إطلاق الأكثر و تصريح والدي العلّامة في «المعتمد» و المتفاهم في العرف هو الأوّل

و هو الظاهر من القاموس و الكنز و مجمع البحرين، و يدلّ عليه استعمالها فيما أعطى للحقّ في الصحيح عن رجل يرشو الرجل على أن يتحوّل من منزله فيسكنه، قال: «لا بأس» فإنّ الأصل في الاستعمال إذا لم يعلم الاستعمال في غيره الحقيقة.» «2»

أقول: ما اختاره في المستند في معنى الرشوة يقرب لما مرّ عن المصباح المنير بناء على تعميم عبارته لغير باب الحكم فيراد بالرشوة ما يعطى للغير- الحاكم أو غيره- ليحمله على ما يريده و ينفعه حقّا كان أو باطلا و تعمّ باب القضاء و غيره مثل ما يعطى لسائر الولاة لاستمالتهم إلى ما يريده. و المراد بالمنزل في الصحيحة إمّا أحد الأمكنة المشتركة أو المنزل الشخصي المغصوب من المعطي فيعطي الرشوة لرفع يده.

9- و في مصباح الفقاهة ما ملخّصه: «و المتحصّل من كلمات الفقهاء و من أهل العرف و اللغة: أنّ الرشوة ما يعطيه أحد الشخصين للآخر لإحقاق حقّ أو تمشية باطل، أو للتملّق، أو الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، أو في عمل لا يقابل بالأجرة و الجعل عند العرف و العقلاء بل يفعلون ذلك العمل للتعاون و التعاضد

______________________________

(1) المنجد/ 262.

(2) مستند الشيعة 2/ 526، و الرواية في الوسائل 12/ 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 151

و يدلّ عليه الكتاب. (1)

______________________________

بينهم كإحقاق الحقّ و إبطال الباطل و ترك الظلم أو دفعه و تسليم الأوقاف- من المدارس و المساجد و المعابد و نحوها- إلى غيره كأن يرشو الرجل على أن يتحوّل عن منزله فيسكنه غيره، إلى غير ذلك من الموارد التي لم يتعارف أخذ الأجرة عليها.» «1»

أقول: أراد بما ذكره أخيرا كون إطلاقها

على ما لم يتعارف على نحو الحقيقة كما في مثال الأوقاف المشتركة و عدم صحّة إطلاقها على الجعل و الأجرة فيما تعارف، و لا يخفى أنّه لو صحّ ما ذكره في معنى الرشوة من التعميم فالظاهر أنّ المتيقّن حرمتها هو خصوص ما يعطى لإحقاق الحق أو تمشية الباطل سواء أعطى للقاضي أو لغيره من العمال كما يشهد بذلك الصحيح الذي ذكره في المستند حيث نفى فيه البأس عمّا أخذ للتحوّل من المنزل ليسكنه غيره، و لأجل ذلك قيّدت في أكثر أخبار الباب بما في الحكم فإنّه الذي يغلب فيه إبطال الحقّ أو تمشية الباطل، و سيأتي لذلك مزيد توضيح.

أدلّة حرمة الرشوة:
اشارة

(1) أقول: يستدلّ لحرمة الرشوة بأمور:

الأوّل: أنّ الحكم بالباطل محرّم قطعا فما يقع بإزائه أعني الرشوة يكون حراما

لا محالة، إذ لا ماليّة شرعا لما يتمحّض في الحرمة من الذوات و الأعمال، و يشهد لذلك ما مرّ في أوّل المكاسب من الأخبار العامّة كخبر تحف العقول و غيره فراجع.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 262.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 152

..........

______________________________

و بالجملة فالرشوة في باب القضاء عبارة عمّا يدفع بإزاء الحكم بالباطل أو بنفع المعطي حقّا كان أو باطلا و هما محرّمان فيحرم ما يقع بإزائهما تكليفا و وضعا، و تطلق أيضا على ما يعطى لإحقاق الحقّ و دفع الباطل، و كيف كان فهي غير أجرة القضاء كما يأتي.

الثاني: الإجماع

المدّعى في كلماتهم كما مرّ.

و يرد على ذلك احتمال كون مدرك المفتين ما يأتي من الكتاب و السنّة فلا يكون دليلا مستقلا كاشفا عن تلقّي الحكم يدا بيد عن المعصومين عليهم السّلام.

الثالث: قوله- تعالى- في سورة البقرة:

وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. «1»

أقول: الأكل في الآية و نظائرها كناية عن مطلق الاستمتاعات و التصرّفات، و إنّما خصّ بالذكر، لأنّه أوّل حاجة طبيعيّة توجّه إليها البشر و أهمّها عنده.

قال في مجمع البيان في تفسير الآية ما ملخّصه: «قيل فيه أقوال: أحدها: أنّه الودائع و ما لا يقوم عليه بيّنة، و ثانيها: أنّه مال اليتيم في يد الأوصياء، و ثالثها:

أنّه ما يؤخذ بشهادة الزور، و الأولى أن يحمل على الجميع.» «2»

أقول: ما ذكره صحيح فتشمل الآية كلّ مورد تعطى الرشوة للحاكم لاستمالته و استخراج رأيه بنفع المعطي. و موردها و إن كان خصوص الأموال و

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 188.

(2) مجمع البيان 2/ 282 (ط. أخرى 1/ 282).

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 153

..........

______________________________

لكن يمكن إلغاء الخصوصيّة عرفا فتشمل إعطاء الرشوة بإزاء الحكم بالباطل أو بنفع المعطي و لو في غير المنازعات الماليّة. هذا.

و قد مرّ منّا مرارا أنّ الباء في قوله: «بالباطل» للسببيّة لا للمقابلة فيراد النهي عن أخذ مال الغير بالأسباب الباطلة. و يشهد لذلك استثناء التجارة عن تراض التي هي من الأسباب الناقلة في نظير الآية في سورة النساء «1» و قوله: تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ يحتمل أن يكون معطوفا على «تأكلوا» و مدخولا لحرف النهي فيكون من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ حيث إنّ الإرشاء أحد من الأسباب الباطلة لأكل مال

الغير، كما يحتمل أن يكون معطوفا على «الباطل» عطفا تفسيريّا و مدخولا للباء فيصرف الجملة الأولى عن إطلاقها، و كيف كان فالمدلول المطابقي للآية حرمة الإرشاء و يستلزم حرمة الرشوة قهرا، فتدبّر.

قال في تفسير الميزان: «الإدلاء هو إرسال الدلو في البئر لنزح الماء، كنّى به عن مطلق تقريب المال إلى الحكّام ليحكموا كما يريده الراشي و هو كناية لطيفه تشير إلى استبطان حكمهم المطلوب بالرشوة الممثّل لحال الماء الذي في البئر بالنسبة إلى من يريده.» «2»

أقول: و يشهد لما ذكره ما مرّ من بعض أهل اللغة من كون الرشاء بمعنى الحبل و استظهار أخذ كلمة الرشوة من الرشاء فالمقصود إعطاء الرشوة للحاكم، ليستخرج بها رأيه كما يستخرج الماء من البئر بالدلو و الرشاء.

______________________________

(1) سورة النساء (4)، الآية 29.

(2) الميزان 2/ 52، في ذيل الآية 188 من سورة البقرة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 154

[الرابع الأخبار]
اشارة

و السنّة، و في المستفيضة: إنّها كفر باللّه العظيم أو شرك. (1)

ففي رواية الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «أيّما وال احتجب عن حوائج الناس احتجب اللّه عنه يوم القيامة و عن حوائجه، و إن أخذ هدية كان غلولا، و إن أخذ رشوة فهو مشرك.» (2)

و عن الخصال- في الصحيح- عن عمّار بن مروان قال: «كلّ شي ء غلّ من الإمام فهو سحت و السحت أنواع كثيرة، منها ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة، و منها أجور القضاة، و أجور الفواجر، و ثمن الخمر و النبيذ المسكر، و الربا بعد البيّنة. و أمّا الرشا في الأحكام- يا عمّار- فهو الكفر باللّه العظيم.» (3)

______________________________

و بذلك يدفع ما احتمله بعض من إرادة إعطاء جميع المال المتنازع فيه للحاكم ليردّ بعضه

إلى المعطي.

(1) الأمر الرابع: السنّة المستفيضة بل المتواترة إجمالا من طرق الفريقين.

و معنى التواتر الإجمالي ورود روايات كثيرة دالّة على حكم بحيث يقطع إجمالا بصدور بعضها و لو واحدة منها.

(2) راجع الوسائل «1»، و سندها ضعيف، و الغلول: الخيانة و الانحراف عن الصواب. و الوالي معنى عامّ يشمل القاضي أيضا فإنّ القضاء أيضا من شئون الولاة.

(3) راجع الوسائل و فيه: «فإنّ ذلك الكفر باللّه العظيم و برسوله» «2» و المرويّ عنه أبو عبد اللّه عليه السّلام.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 1.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 12.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 155

..........

______________________________

و روى نحو هذه الرواية عن الكافي و التهذيب أيضا عن عمّار بن مروان عن أبي جعفر عليه السّلام «1» و لكن ليس فيها أجور القضاة و يحتمل اتّحاد الروايتين و تصحيف المرويّ عنه في إحداهما.

و كيف كان فالسند صحيح، و عمّار بن مروان و أخوه عمرو ثقتان. و الدلالة واضحة.

معنى السحت لغة

قال الخليل في العين: «السحت: كلّ حرام قبيح الذكر يلزم منه العار نحو ثمن الكلب و الخمر و الخنزير.» «2»

و في معجم مقائيس اللغة: «المال السحت: كلّ حرام يلزم أكله العار، و سمّي سحتا لأنّه لا بقاء له ...» «3»

و في المفردات: «السحت: القشر الذي يستأصل، قال- تعالى-: فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذٰابٍ و قرئ: «فتسحتكم» يقال: سحته و أسحته، و منه السحت المحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنّه يسحت دينه و مروّته. قال تعالى: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ أي ما يسحت دينهم.» «4»

و في النهاية: «يقال: مال فلان سحت أي لا شي ء على من استهلكه، و دمه سحت أي لا شي ء على من سفكه، و اشتقاقه من السحت

و هو الإهلاك و الاستيصال، و السحت: الحرام الذي لا يحلّ كسبه.» «5»

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 1.

(2) العين 3/ 132.

(3) معجم مقائيس اللغة 3/ 143.

(4) المفردات/ 231 (ط. أخرى/ 400).

(5) النهاية لابن الأثير 2/ 345.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 156

و مثلها رواية سماعة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. (1)

______________________________

أقول: و قد يطلق السحت على بعض المكروهات الملازمة للعار عرفا مثل كسب الحجّام مثلا. و كيف كان فاللفظ ظاهر في حرام خاصّ يتنفّر عنه طباع الكرام، و يذهب بالدين و المروّة و لا بركة و لا بقاء له نوعا، و من أظهر مصاديقه الرشوة.

(1) راجع الوسائل «1» هذا. و الأخبار في حرمة الرشوة- مضافا إلى ما ذكرها المصنّف- من طرق الفريقين كثيرة نتعرّض لبعضها:

بعض ما لم يذكره المصنّف من أخبار الباب

1- رواية يزيد بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: سألته عن السحت فقال:

«الرشا في الحكم.» «2»

2- معتبرة السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغي و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.» «3»

و في تقييد الرشوة في أكثر أخبار الباب بما في الحكم نحو إشعار بخصوصيّة لما في الحكم فلا يحرم غيره أو لا تشتدّ حرمته.

3- و عن الفقيه قال: قال عليه السّلام: «أجر الزانية سحت، و ثمن الكلب الذي ليس بكلب الصيد سحت، و ثمن الخمر سحت و أجر الكاهن سحت، و ثمن

______________________________

(1) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2؛ و 18/ 162، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 3.

(2) الوسائل 12/ 62، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 4.

(3) نفس المصدر

و الباب، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 157

..........

______________________________

الميتة سحت، فأمّا الرشا في الحكم فهو الكفر باللّه العظيم.» «1»

أقول: و إسناد الصدوق الرواية بنحو الجزم إلى الإمام عليه السّلام دليل على ثبوتها عنده و صحّتها لديه لما ثبت من حرمة القول بغير علم.

4- و في حديث وصايا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام قال: «يا عليّ من السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب، و ثمن الخمر و مهر الزانية و الرشوة في الحكم، و أجر الكاهن.» «2»

5- و عن مجمع البيان قال: روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ السحت هو الرشوة في الحكم و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام.» «3»

6- و في سنن البيهقي بسنده عن عبد اللّه بن عمرو قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الراشي و المرتشي.» «4»

أقول: و الراوي عبد اللّه بن عمرو بن العاص رجل كثير الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان أصغر من أبيه بإحدى عشرة سنة.

7- و في الدر المنثور في تفسير قوله تعالى- في شأن اليهود- «أكّالون للسحت» في سورة المائدة عن أحمد و البيهقي عن ثوبان قال: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الراشي و المرتشي و الرائش» يعني الذي يمشي بينهما. «5»

8- و فيه أيضا عن ابن عبّاس أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «رشوة الحكّام حرام و

______________________________

(1) نفس المصدر و الباب، الحديث 8.

(2) نفس المصدر و الباب، الحديث 9.

(3) نفس المصدر و الباب، الحديث 15.

(4) سنن البيهقي 10/ 139، كتاب آداب القاضي،

باب التشديد في أخذ الرشوة ...

(5) الدر المنثور 2/ 284.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 158

..........

______________________________

هي السحت الذي ذكر اللّه- تعالى- في كتابه.» «1»

9- و فيه أيضا عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه سئل عن السحت فقال:

ا «لرشا» فقيل له: في الحكم؟ قال: «ذلك الكفر.» «2»

10- و فيه أيضا عن عليّ عليه السّلام قال: «أبواب السحت ثمانية: رأس السحت رشوة الحاكم و كسب البغيّ و عسب الفحل و ثمن الميتة و ثمن الخمر و ثمن الكلب و كسب الحجّام و أجر الكاهن.» «3»

11- و فيه أيضا عن ابن مسعود قال: من شفع لرجل ليدفع عنه مظلمته أو يردّ عليه حقّا فأهدى له هديّه فقبلها فذلك السحت، فقيل: يا أبا عبد الرحمن إنّا كنّا نعدّ السحت الرشوة في الحكم فقال عبد اللّه: ذلك الكفر: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ. «4»

12- و فيه أيضا عن ابن عبّاس أنّه سئل عن السّحت فقال: الرشا، فقيل: في الحكم؟ قال: ذلك الكفر ثمّ قرأ: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمٰا أَنْزَلَ اللّٰهُ فَأُولٰئِكَ هُمُ الْكٰافِرُونَ. «5»

أقول: يظهر من هذا القبيل من الروايات حرمة كلّ رشوة و أنّ حرمتها في الحكم أشدّ من غيره بحيث تساوق الكفر.

إلى غير ذلك من أخبار الفريقين في هذا المجال، و الظاهر تواترها إجمالا كما

______________________________

(1) نفس المصدر و الصفحة.

(2) الدر المنثور 2/ 284.

(3) نفس المصدر و الصفحة.

(4) نفس المصدر 2/ 283.

(5) نفس المصدر و الصفحة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 159

و في رواية يوسف بن جابر: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من نظر إلى فرج امرأة لا تحلّ له، و رجلا خان

أخاه في امرأته و رجلا احتاج الناس اليه لفقه فسألهم الرشوة.» (1)

و ظاهر هذه الرواية سؤال الرشوة لبذل فقهه، فتكون ظاهرة في حرمة أخذ الرشوة للحكم بالحقّ أو للنظر في أمر المترافعين ليحكم بعد ذلك بينهما بالحقّ من غير أجرة. (2)

______________________________

مرّ بمعنى العلم الإجمالى بصدور بعضها لا محالّة.

(1) راجع الوسائل «1» و السند ضعيف بمجاهيل منهم يوسف بن جابر.

هل تشمل الرشوة الأجر و الجعل على الحكم و القضاء؟

(2) أقول: احتياج الناس إلى الشخص لفقهه لا ينحصر فيما ذكره المصنّف من حكمه أو نظره في أمر المترافعين بل ربّما يحتاجون إليه لتدريس الفقه أو تعليم المسائل الفقهيّة أو التصدّي للأمور الحسبيّة مثلا و نحو ذلك من شئون الفقيه في عصر الغيبة، فلو أخذ بإطلاق ذلك و جعل قرينة على عموم معنى الرشوة صار مقتضى ذلك صدق الرشوة على الجعل للتدريس أو تعليم المسائل و نحوهما أيضا، و لا نظنّ أن يلتزم المصنّف بذلك.

فالظاهر عدم دلالة الرواية على تعميم معنى الرشوة، و إنّما تدلّ على أنّ الاحتياج إلى الشخص لفقهه ربّما يصير موجبا لطمعه و طلبه الرشوة كما إذا احتاجوا إليه للقضاء مثلا و انحصر القاضي فيه فطلب من أحدهم الرشوة ليحكم بنفعه.

______________________________

(1) الوسائل 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 5.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 160

و هذا المعنى هو ظاهر تفسير الرشوة في القاموس بالجعل (1) و إليه نظر المحقّق الثاني حيث فسّر في حاشية الإرشاد: الرشوة بما يبذله المتحاكمان. (2) و ذكر في جامع القاصد «1»: أنّ الجعل من المتحاكمين رشوة. و هو صريح الحلّي أيضا في مسألة تحريم أخذ الرشوة مطلقا و إعطائها إلّا إذا كان على إجراء حكم صحيح فلا يحرم على المعطي. (3)

هذا.

______________________________

و إلى ذلك أشار

المحقّق الإيرواني أيضا في الحاشية حيث قال: «الرواية لا تفيد أزيد من حرمة أخذ الرشوة، و قد عرفت أنّ المتيقّن من مدلول الرشوة هو المال المبذول في قبال الحكم بالباطل.» «2»

(1) قد مرّ أنّ عبارة القاموس من قبيل التعريف بالأعمّ، و هذا أمر شائع بين أهل اللغة كقولهم: «سعدانة نبت» أو اللام فيه للإشارة إلى الجعل الخاصّ المعهود، و ذلك لبداهة عدم كون كلّ جعل و لو في قبال الأعمال العادّية المحلّلة رشوة.

(2) حاشية الإرشاد مخطوطة، و في ذيل المكاسب المطبوع أخيرا هكذا: «ما يبذله أحد المتخاصمين» «3»

(3) أقول: ليس صريح الحلّي و لا ظاهره: أنّ كلّ جعل من المتحاكمين للحاكم و لو كان بعنوان أصل القضاء رشوة فراجع كلامه:

قال في السرائر: «و القاضي بين المسلمين و الحاكم و العامل عليهم يحرم على

______________________________

(1) راجع جامع المقاصد 4/ 37، كتاب المتاجر.

(2) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 26.

(3) المكاسب 1/ 241.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 161

و لكن عن مجمع البحرين: قلّما تستعمل الرشوة إلّا فيما يتوصّل به إلى إبطال حقّ أو تمشية باطل.

و عن المصباح: هي ما يعطيه الشخص للحاكم أو غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد. (1)

و عن النهاية: أنّها الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، و الراشي: الذي يعطي ما يعينه على الباطل، و المرتشي: الآخذ، و الرائش: هو الذي يسعى بينهما يستزيد لهذا و يستنقص لهذا.

______________________________

كلّ واحد منهم الرشوة لما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لعن اللّه الراشي و المرتشي في الحكم» و هو حرام على المرتشي بكلّ حال، و أمّا الراشي فإن كان قد رشاه على تغيير حكم أو إيقافه فهو حرام، و إن كان

على إجرائه على واجبه لم يحرم عليه أن يرشوه لذلك، لأنّه يستنقذ ماله فيحلّ ذلك له و يحرم على الحاكم أخذه». «1»

أقول: الظاهر من عبارته الأخيرة إعطاء الرشوة بداعي حكم الحاكم بالحقّ و دفعه عن الحكم بالباطل فلا نظر له إلى حكم الجعل على أصل القضاء.

(1) قوله: «أو يحمله على ما يريد» بنحو اللفّ و النشر المرتّب و فيه احتمالان:

الأوّل: أن يراد حمل المعطي غير الحاكم على ما يريده فتشمل عبارته غير باب الحكم أيضا.

الثاني: أن يراد حمل الغير الحاكم على ما يريده المعطي فتختصّ بباب الحكم.

و محصّل الكلام في المقام: أنّ الرشوة ليست عبارة عن مطلق الجعل، و لا مطلق الجعل للقاضي أو القضاء. بل المتيقّن منها الجعل في قبال إبطال حقّ أو

______________________________

(1) السرائر 2/ 166، كتاب القضايا و الأحكام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 162

..........

______________________________

تمشية باطل، أو إحقاق حقّ يتوقّف عليها فيحرم على المرتشي فقط. و بعبارة أخرى: نظام الحكم و البرامج الاجتماعيّة و الإداريّة كلّها أسّست و شرّعت على أساس حفظ الحقوق و تأمين العدالة الاجتماعيّة فيجب على المسؤولين من القضاة و غيرهم رعاية ذلك فكلّما أعطي بداعي تحريفها عن مسيرها الحقّ و سوء الاستفادة منها أو دفع سوء الاستفادة منها يسمّى رشوة من غير فرق بين باب القضاء و غيره.

و على هذا فتشمل ما يعطى بداعي إحقاق الحقّ إذا توقّف على ذلك كما يظهر من عبارة السرائر و حينئذ فتحرم على الآخذ دون المعطي بعد توقّف استنقاذ حقّه على ذلك فتدبّر.

و حيث إنّ غالب سوء الاستفادة و أبرزها كان في نظام الحكم و القضاء ذكر في أخبار الباب: «الرشوة في الحكم».

و أمّا إطلاقها على ما يعطى للتحوّل من مكان

ليسكنه غيره كما وقع في صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه؟ قال: «لا بأس به»، «1» فأوّلا: وقع هذا التعبير في كلام الراوي لا في كلام الإمام، و ثانيا: الاستعمال أعمّ من الحقيقة فلعلّه وقع مجازا لتبيين حزازة العمل و كونه شبيها بالرشوة، و ثالثا: الإمام عليه السّلام حكم بحلّيته فليس من قبيل الرشوة المحرّمة بل ينصرف عنه ما مرّ من أدلّة حرمة الرشوة المقيّدة بالحكم.

فاعتماد صاحبى المستند و مصباح الفقاهة على هذه الصحيحة لتعميم معنى

______________________________

(1) الوسائل 12/ 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 163

و ممّا يدلّ على عدم عموم الرشا لمطلق الجعل على الحكم ما تقدّم في رواية عمّار بن مروان من جعل الرشا في الحكم مقابلا لأجور القضاة خصوصا بكلمة: «أمّا»

نعم لا يختصّ بما يبذل على خصوص الباطل، بل يعمّ ما يبذل لحصول غرضه، و هو الحكم له حقّا كان أو باطلا و هو ظاهر ما تقدّم عن المصباح و النهاية. و يمكن حمل رواية يوسف بن جابر على سؤال الرشوة للحكم للراشي حقّا أو باطلا، أو يقال: إنّ المراد الجعل فاطلق عليه الرشوة تأكيدا للحرمة.

______________________________

الرشوة لا يخلو من إشكال فراجع كلامهما في أوائل البحث.

و في صحيحة عمّار بن مروان جعل أجور القضاة قسيما للرشوة فهما متفاوتان. و يحتمل أن يكون مورد صحيحة محمّد بن مسلم صورة غصب منزل الشخص فيعطي صاحبه المال للغاصب لرفع غصبه و على هذا فتسميته بالرشوة من باب الحقيقة و يكون جوازها للمعطي لا للآخذ فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص:

164

[حرمة أخذ الأجرة من المتحاكمين]

و منه (1) يظهر حرمة أخذ الحاكم للجعل من المتحاكمين مع تعيّن الحكومة عليه كما يدلّ عليه قوله عليه السّلام: «احتاج الناس إليه لفقهه.» و المشهور المنع مطلقا.

______________________________

حرمة أخذ الأجرة من المتحاكمين

(1) أقول: بعد ما فرغ المصنّف من بيان حكم الرشوة للقاضي شرع في بيان حكم الأجرة للقضاة. و الضمير في قوله: «منه» يرجع إلى ما احتمله أخيرا في رواية يوسف بن جابر من إرادة الجعل من لفظ الرشوة و لا أدرى أنّ مجرّد احتمال ضعيف مخالف للظاهر في رواية ضعيفة، كيف يظهر منه الحكم بالحرمة في مسألة مهمّة؟

و كيف كان فالجعل إمّا أن يؤخذ من المتحاكمين أو من الإمام و بيت المال، و في كلّ منهما إمّا أن يتعيّن عليه القضاء لعدم وجود غيره أو لا يتعيّن، و في كلّ منها إمّا أن يكون للقاضي كفاية ماليّة فلا يحتاج إلى الجعل و إمّا أن يحتاج.

و في المسألة أقوال: جواز الأخذ مطلقا، و عدمه كذلك، و التفصيل بين صورة احتياجه و عدم احتياجه. و التفصيل بين صورة عدم التعيّن عليه و بين غيرها، و التفصيل بين ما إذا احتاج و لم يتعيّن و بين غيره.

و يمكن أن يفصّل أيضا بين الأخذ من بيت المال أو من نفس المتحاكمين فيحكم بالجواز في الشقّ الأوّل من هذه التفاصيل. و المصنّف تعرّض لهذه المسألة و مسألة ارتزاق القاضي من بيت المال فيما ألّفه في القضاء فراجع. «1»

و حيث إنّ المسألة مبتلى بها فالأولى التعرّض لبعض كلمات الأصحاب فيها لزيادة البصيرة:

______________________________

(1) كتاب القضاء للشيخ الأنصاري/ 97.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 165

..........

______________________________

1- قال الشيخ في قضاء الخلاف (المسألة 31): «لا يجوز للحاكم أن يأخذ الأجرة على

الحكم من الخصمين أو من أحدهما سواء كان له رزق من بيت المال أو لم يكن. و قال الشافعي: إن كان له رزق من بيت المال لم يجز كما قلنا و إن لم يكن له زرق من بيت المال جاز له أخذ الأجرة على ذلك. دليلنا عموم الأخبار الواردة في أنّه يحرم على القاضي أخذ الرشا و الهدايا، و هذا داخل في ذلك، و أيضا طريقة الاحتياط تقتضي ذلك، و أيضا إجماع الفرقة على ذلك فإنّهم لا يختلفون في أنّ ذلك حرام.» «1»

أقول: محطّ كلامه صورة أخذ الجعل من المتحاكمين و على ذلك ادّعى إجماع الفرقة فلا ينافي القول بالجواز في غيرها و يظهر منه تعميم الرشوة المحرّمة للجعل و الأجرة أيضا. و قد منعنا ذلك. و لعلّه أراد بالإجماع الذي ادّعاه الإجماع على حرمة الرشوة.

2- و قال في مكاسب النهاية: «و لا بأس بأخذ الأجر و الرزق على الحكم و القضاء بين الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدّمناه، فأمّا من جهة سلطان الجور فلا يجوز إلّا عند الضرورة أو الخوف على ما قدّمناه، و التنزّه عن أخذ الرزق على ذلك في جميع الأحوال أفضل.» «2»

3- و في مكاسب المقنعة: «و لا بأس بالأجر على الحكم و القضاء بين الناس، و التبرّع بذلك أفضل و أقرب إلى اللّه تعالى.» «3»

أقول: إطلاق كلامه يقتضي جواز الأخذ من الإمام و من المتحاكمين، و لعلّ

______________________________

(1) الخلاف 6/ 233 (ط. أخرى 3/ 319)

(2) النهاية لشيخ الطائفة/ 367.

(3) المقنعة/ 588.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 166

..........

______________________________

الشيخ الطوسي «ره» حيث ادّعى في الخلاف إجماع الفرقة على عدم جواز الأخذ من المتحاكمين حمل كلام استاذه في المقنعة على

جواز الأخذ من خصوص الإمام.

4- و في مكاسب المراسم: «فأمّا المكروه فهو الكسب بالنوح على أهل الدين بالحقّ و كسب الحجّام و الأجر على القضاء بين الناس.» «1»

5- و في المهذّب لابن البرّاج في عداد المكاسب المكروهة قال: «و كسب الحجّام و الأجر على القضاء و تنفيذ الأحكام من قبل الإمام العادل.» «2»

أقول: قوله: «من قبل الإمام العادل» يحتمل رجوعه إلى الأجر، و يحتمل رجوعه إلى التنفيذ.

6- و في الكافي لأبي الصلاح الحلبي في عداد المكاسب المحرّمة: «أجر تنفيذ الأحكام» «3»

7- و في مكاسب السرائر في عداد المكاسب المحرّمة قال: «و الارتشاء على الأحكام و القضاء بين الناس و أخذ الأجرة على ذلك، و لا بأس بأخذ الرزق على القضاء من جهة السلطان العادل و يكون ذلك من بيت المال دون الأجرة على كراهة فيه.» «4»

8- و في قضاء الشرائع- بعد التعرّض لرزقه من بيت المال- قال: «أمّا لو أخذ الجعل من المتحاكمين ففيه خلاف. و الوجه التفصيل فمع عدم التعيين و حصول

______________________________

(1) المراسم/ 169.

(2) المهذّب لابن البرّاج 1/ 346، كتاب المكاسب.

(3) الكافي لأبي الصلاح الحلبي 283.

(4) السرائر 2/ 217.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 167

بل في جامع المقاصد (1) دعوى النصّ و الإجماع.

______________________________

الضرورة قيل: يجوز، و الأولى المنع، و لو اختلّ أحد الشرطين لم يجز.» «1» و يأتي في هذا المجال كلام العلّامة في المختلف أيضا عند تعرّض المصنّف له.

ثمّ لا يخفى أنّ مقتضى عمومات أدلّة العقود و الإجارة و الجعالة الصحّة و جواز جعل الأجر و الجعل و أخذهما سواء كان من قبل الإمام العادل أو من قبل المتحاكمين، لأنّ القضاء عمل مشروع، و عمل المسلم محترم، سواء كان الاستيجار للقضاء

بنحو الإطلاق أو للقضاء في واقعة خاصّة.

و ليس القضاء أمرا عباديّا متوقّفا على قصد القربة حتى يقال بمنافاة الجعل لقصد القربة، و على هذا فالقول بعدم الجواز يحتاج إلى دليل متقن. و يحتمل جدّا حمل عبارة أكثر المانعين على صورة الأخذ من المتحاكمين بتوهّم أنّه من مصاديق الرشوة أو لكونه في معرض طمع الرشوة و استدعائها بعد ما شاهد القاضي إقدامهما على إعطاء المال.

(1) قال العلّامة في القواعد: «و تحرم الأجرة على الأذان و على القضاء، و يجوز أخذ الرزق عليهما من بيت المال.» «2» و علّق على ذلك في جامع المقاصد بقوله: «... و أمّا القضاء فللنّصّ و الإجماع، و لا فرق بين أخذ الأجرة من المتحاكمين أو من السلطان أو أهل البلد، عادلا كان أو جائرا، سواء كان المأخوذ بالإجارة أو الجعالة أو الصلح. و أطلق بعض الأصحاب جواز الأخذ، و المصنّف

______________________________

(1) الشرائع/ 862.

(2) قواعد الأحكام 1/ 121، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 168

..........

______________________________

في المختلف قال: إنّ تعيّن القضاء عليه إمّا بتعيين الإمام عليه السّلام أو بفقد غيره، أو بكونه الأفضل و كان متمكّنا لم يجز الأجر عليه، و إن لم يتعيّن أو كان محتاجا فالأقرب الكراهة.» «1»

أقول: دعواه الإجماع على حرمة الأخذ سواء كان من المتحاكمين أو من السلطان- مع تصريحه بإطلاق بعض الأصحاب جواز الأخذ و مع ما عرفت من الفتوى بالجواز في المقنعة و النهاية و المراسم و المهذّب- عجيب. و لعلّ منشأ دعواه ذلك دعوى الشيخ له في الخلاف، و قد عرفت أنّ محطّ البحث في الخلاف هو الأخذ من المتحاكمين لا الإمام، و مرّ احتمال أن يكون معقد إجماعه حرمة الرشوة.

أدلّة حرمة الأجر و الجعل على القضاء:
اشارة

و كيف كان

فقد استدل على حرمة أخذ القاضي للأجر بوجوه:

الأوّل: الإجماع المدّعى في كلماتهم.

و فيه ما عرفت من وجود الخلاف في المسألة، و لو سلّم فهو مدركيّ، لاحتمال كونه على أساس ما يأتي من الأدلّة.

الثاني: كونه من الرشوة إن أخذ من المتحاكمين،

و قد مرّ التصريح بذلك في الخلاف و هو الظاهر من المستند و مصباح الفقاهة أيضا. و مرّ من المصنّف أيضا استفادة هذا المعنى من رواية يوسف بن جابر بحمل قوله: «احتاج الناس إليه

______________________________

(1) جامع المقاصد 4/ 36، كتاب المتاجر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 169

و لعلّه لحمل الاحتياج في الرواية على الاحتياج إلى نوعه. (1) و لإطلاق ما تقدّم في رواية عمّار بن مروان: من جعل أجور القضاة من السّحت، بناء على أنّ الأجر في العرف يشمل الجعل و إن كان بينهما فرق عند المتشرعة. (2)

______________________________

لفقهه» على إطلاقه أو كون المراد من لفظ الرشوة فيها هو الجعل أطلقت عليه للمبالغة في تحريمه.

و فيه: منع كون الجعل من الرشوة لما عرفت من كونها بمعنى تحريف نظام الحكم أو سائر الأنظمة الإداريّة و الاجتماعيّة عن مسيرها الحقّ و سوء الاستفادة منها بوسيلة المال، و ما ذكره المصنّف في رواية يوسف بن جابر قد مرّ الجواب عنه. و قد جعلت الرشوة في صحيحة عمّار بن مروان قسيما لأجور القضاة فيتفاوتان.

(1) حمل الاحتياج في رواية يوسف بن جابر على الاحتياج إلى نوعه لا إلى شخصه غير بعيد و لكن استناد المشهور و جامع المقاصد لإطلاق المنع إلى هذه الرواية غير واضح بل ممنوع، إذ المذكور فيها هي الرشوة و قد منعنا إرادة الجعل منها.

[الثالث: صحيحة عمّار بن مروان]

(2) الثالث من أدلّة الحرمة: صحيحة عمّار بن مروان حيث عدّ فيها من السحت أجور القضاة، و المذكور فيها و إن كان لفظ الأجور و الأجر و الجعل متفاوتان في لسان المتشرّعة لاصطلاح الأوّل في باب الإجارات و الثاني في باب الجعالات و لكنّ الظاهر اتحاد حكمهما في محطّ البحث و عدم

القول بالفصل بينهما.

و فيه: احتمال كون المراد بأجور القضاة فيها أجور قضاة الجور، لأنّها الغالبة و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 170

[الرابع صحيحة ابن سنان]

و ربّما يستدلّ على المنع بصحيحة ابن سنان قال: سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قاض بين فريقين [قريتين. خ] يأخذ على القضاء الرزق من السلطان؟. قال عليه السّلام: «ذلك السحت.» (1)

و فيه: أنّ ظاهر الرواية كون القاضي منصوبا من قبل السلطان الظاهر- بل الصريح- في سلطان الجور، إذ ما يؤخذ من العادل لا يكون سحتا قطعا. و لا شكّ أنّ هذا المنصوب غير قابل للقضاء فما يأخذه سحت من هذا الوجه.

______________________________

المبتلى بها في أعصار أئمّتنا عليهم السّلام بل من المحتمل رجوع الضمير في قوله: «و منها» إلى ما قبله أعني: «ما أصيب من أعمال الولاة الظلمة» فإنّ القضاة قسم من الولاة.

(1) أقول: هذا رابع أدلّة الحرمة في المقام: راجع الوسائل «1» و المذكور في الصحيحة الرزق لا الأجر، و المصنّف حمله على الرزق المأخوذ من سلطان الجور، لعدم كون الرزق المأخوذ من العادل سحتا قطعا. و في مرآة العقول حمله على الأجرة قال: «و حمل على الأجرة، و المشهور جواز الارتزاق من بيت المال.» «2»

أقول: كلام المصنّف أقرب إلى القبول، إذ حمل الرزق على الأجرة خلاف الظاهر، و قد مرّ أنّ القضاة في تلك الأعصار كانوا منصوبين من قبل سلاطين الجور و من عمّالهم، و على هذا فالصحيحة لا ترتبط بالمقام.

______________________________

(1) الوسائل 18/ 162، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 1.

(2) مرآة العقول 24/ 270، كتاب القضاء، باب أخذ الأجرة و الرشا على الحكم، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 171

و لو فرض كونه قابلا للقضاء

لم يكن رزقه من بيت المال أو من جائزة السلطان محرّما قطعا فيجب إخراجه عن العموم. إلّا أن يقال: إنّ المراد الرزق من غير بيت المال (1) و جعله على القضاء بمعنى المقابلة قرينة على إرادة العوض. و كيف كان فالأولى في الاستدلال على المنع ما ذكرناه.

______________________________

(1) أقول: المذكور في الصحيحة أخذ الرزق من السلطان، و الغالب فيما بأيدي السلاطين كونه من بيت المال و الأموال العامّة.

الخامس من الأدلّة على الحرمة: كون القضاء أمرا واجبا

إمّا كفاية أو عينا مع التعيّن، و لا يجوز أخذ الأجرة على ما وجب من قبل اللّه.

و سيأتي التعرّض لذلك في كلام المصنّف عند نقل كلام العلّامة و يأتي الجواب عنه.

فهذه خمسة أدلّة أقيمت على حرمة الأجرة للقاضي.

و قد تحصّل ممّا بيّناه عدم وجود دليل معتبر على حرمة أخذ الأجرة على أصل القضاء إذا لم تكن بنحو الرشوة و قصد سوء الاستفادة من قبل القاضي و كان القاضي واجدا لشرائط القضاء عندنا.

نعم يمكن القول بحرمته إذا وجب عينا و سيأتي البحث فيه.

و أمّا ما في مصباح الفقاهة من: «أنّ الأمور التي يكون وضعها على المجانيّة فإنّ أخذ الأجرة عليها يعدّ رشوة في نظر العرف، و من هذا القبيل القضاوة و الإفتاء.» «1» فالظاهر أنّه ادّعاء بلا دليل.

و نظير ذلك ما في الجواهر حيث قال: «و التحقيق عدم جواز أخذ العوض عنه مطلقا عينيّا كان عليه أو كفائيّا، أو مستحبّا مع الحاجة و عدمها، من المتحاكمين أو

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 266.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 172

خلافا لظاهر المقنعة و المحكيّ عن القاضي (1) من الجواز، و لعلّه للأصل (2) و ظاهر رواية حمزة بن حمران قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «من استأكل بعلمه

افتقر.» قلت: إنّ في شيعتك قوما يتحمّلون علومكم و يبثّونها في شيعتكم فلا يعدمون منهم البرّ و الصلة و الإكرام؟

فقال عليه السّلام: «ليس أولئك بمستأكلين. إنّما ذاك الذي يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه ليبطل به الحقوق طمعا في حطام الدنيا الخبر.» (3)

______________________________

أحدهما أو أجنبيّ أو أهل البلد أو بيت المال أو غير ذلك سواء كان ذا كفاية أو لا، لأنّه من مناصب السلطان الذي أمر اللّه- تعالى- بأن يقول: قُلْ لٰا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً* و أوجب التأسّي به.» «1»

أقول: «الظاهر أنّ مورد الآية منصب الرسالة و هي غير منصب الولاية و القضاء، إذ هي من مختصّاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ليس موردا للتأسّي.

(1) قد مرّ كلام المقنعة و المهذّب فراجع. «2»

(2) أقول: الأصل في الأفعال و إن كان هو الحلّية، و لكن الأصل في المعاملات هو الفساد، لاستصحاب عدم ترتّب الأثر إلّا أن يراد بالأصل عمومات أدلّة العقود.

(3) رواها في الوسائل عن معاني الأخبار، و الخبر بتمامه مذكور في المتن فراجع المعاني. «3»

______________________________

(1) الجواهر 22/ 122، كتاب التجارة.

(2) المقنعة/ 588؛ و المهذّب لابن البرّاج 1/ 346.

(3) الوسائل 18/ 102، الباب 11 من أبواب صفات القاضي، الحديث 12؛ و راجع معاني الأخبار/ 181.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 173

و اللام في قوله: «ليبطل به الحقوق.» إمّا للغاية أو للعاقبة، و على الأوّل فيدلّ على حرمة أخذ المال في مقابل الحكم بالباطل. و على الثاني فيدلّ على حرمة الانتصاب للفتوى من غير علم طمعا في الدنيا.

و على كلّ تقدير فظاهرها حصر الاستيكال المذموم فيما كان لأجل الحكم بالباطل، أو مع عدم معرفة الحقّ، فيجوز الاستيكال مع الحكم بالحقّ و

دعوى كون الحصر إضافيّا بالنسبة إلى الفرد الذي ذكره السائل فلا يدلّ إلّا على عدم الذمّ على هذا الفرد دون كلّ من كان غير المحصور فيه، خلاف الظاهر. (1)

و فصّل في المختلف فجوّز أخذ الجعل و الأجرة مع حاجة القاضي و عدم تعيّن القضاء عليه، و منعه مع غناه أو عدم الغنى عنه. (2)

______________________________

و على هذا فكلمة: «الخبر» في العبارة زائدة، و في السند ضعف فيشكل الاعتماد عليه.

(1) الظاهر أنّ مورد الرواية أهل العلم الناشرون لأحاديث أهل البيت عليه السّلام و أحكام الشريعة الإسلاميّة. فالصدر ناظر إلى من يحدّث و يفتي عن علم، و الذيل ناظر إلى من يفتي بغير علم و لا هدى من اللّه- تعالى-. و لا نظر فيها إلى من يحكم و يقضي بين الناس في خصوماتهم حقّا كان أو باطلا، لأنّ منصب القضاء غير أمر الإرشاد و تبليغ الأحكام. فالاستدلال بالرواية لجواز أخذ الأجرة على القضاء مشكل فتدبّر.

(2) في متاجر المختلف بعد نقل كلمات الأصحاب في المسألة قال: «و الأقرب أن نقول: إن تعيّن القضاء عليه إمّا بتعيين الإمام عليه السّلام أو بفقد غيره أو

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 174

و لعلّ اعتبار عدم تعيّن القضاء لما تقرّر عندهم من حرمة الأجرة على الواجبات العينيّة، و حاجته لا تسوّغ أخذ الأجرة عليها، و إنّما يجب على القاضي و غيره رفع حاجته من وجوه أخر.

و أما اعتبار الحاجة فلظهور اختصاص أدلّة المنع بصورة الاستغناء، كما يظهر بالتأمّل في روايتي يوسف و عمّار المتقدّمتين. (1) و لا مانع من التكسّب بالقضاء من جهة وجوبه الكفائي، كما هو أحد الأقوال في المسألة الآتية في محلّها إن شاء اللّه تعالى.

______________________________

بكونه الأفضل و كان

متمكّنا لم يجز الأجر عليه، و إن لم يتعيّن أو كان محتاجا فالأقرب الكراهة. لنا الأصل الإباحة على التقدير الثاني، و لأنّه فعل لا يجب عليه فجاز أخذ الأجر عليه، أمّا مع التعيين فلأنّه يؤدي واجبا فلا يجوز أخذ الأجرة عليه كغيره من العبادات الواجبة.» «1»

أقول: ظاهر عبارته كون القضاء من العبادات الواجبة، و من الواضح عدم صحّة ذلك، لعدم توقّف صحّته على قصد القربة.

ثمّ إنّ مقتضى ما ذكره من التعليل: أنّه يشترط في جواز أخذ الأجرة أمران:

عدم التعيّن و وجود الحاجة معا، و هو الذي فهمه المصنّف أيضا من كلامه، و على هذا ففي عبارة المختلف اشتباه، صحيحها تبديل الواو في قوله: «و كان متمكنا» ب «أو» و تبديل: «أو» في قوله: «أو كان محتاجا» بالواو فتدبّر.

(1) أقول: ما ذكر من أدلّة المنع مطلقة لم يفصل فيها بين صورة الاستغناء و غيرها، و لم يظهر لنا بالتأمّل في الروايتين وجه اختصاصهما بصورة الغنى، و توهّم

______________________________

(1) المختلف 5/ 48، الفصل الأوّل في وجوه الاكتساب، المسألة 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 175

..........

______________________________

أنّ القضاة في تلك الأعصار كانوا منصوبين من قبل الولاة، و المنصوب من قبلهم لم يكن يبقى له حاجة و المحتاج إلى فقهه في رواية يوسف لم يكن يبقى محتاجا بعد رجوع الناس إليه، مدفوع باحتمال الحاجة في بعض المنصوبين أيضا لكثرة طرق الاحتياج، و ليس كلّ من رجع إليه الناس لفقهه مستغنيا بعد احتمال كون المراجعين من طبقة الفقراء و المتوسّطين.

و بالجملة فانصراف الروايتين إلى خصوص صورة الاستغناء غير واضح.

و كيف كان فيظهر من عبارة المصنّف أنّ من أدلّة حرمة الأجرة على القضاء إجمالا كونه من الواجبات، و المصنّف يتعرّض لمسألة

حرمة التكسّب بالواجب و أدلّتها و مناقشاتها تفصيلا في النوع الخامس من أنواع المكاسب المحرّمة فلنبحث عنها هنا إجمالا بقدر يرتبط بالمقام.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 176

حرمة التكسّب بالواجبات
[كلمات الأصحاب في المقام]

______________________________

1- قال المحقّق في الشرائع: «الخامس: ما يجب على الإنسان فعله كتغسيل الموتى و تكفينهم و تدفينهم.» «1»

2- و ذيّله في المسالك بقوله: «هذا هو المشهور بين الأصحاب و عليه الفتوى.» «2»

3- و في مجمع البرهان: «الظاهر أنّه لا خلاف في عدم جواز أخذ الأجرة على فعل واجب على الأجير سواء كان عينيا أم كفائيا، فكأنّ الإجماع دليله.» «3»

أقول: أنت ترى أنّ محلّ البحث في كلماتهم أخذ الأجرة على الواجب- بما هو واجب- و إن كان كفائيا بل الأمثلة المذكورة تكون من الواجبات الكفائيّة، و قد اشتهر التمثيل بهذه الأمثلة في كلمات القدماء أيضا:

4- قال المفيد في مكاسب المقنعة: «و التكسّب بتغسيل الأموات و حملهم و دفنهم حرام، لأنّ ذلك فرض على الكفاية أوجبه اللّه- تعالى- على أهل الإسلام.» «4»

أقول: الظاهر أنّ كون الوجوب بنحو الكفاية لا دخل له في حرمة التكسّب، و على هذا فمقتضى تعليله حرمة التكسّب بكلّ ما أوجبه اللّه- تعالى- و لكنّه «ره» قال- بعد سطرين-: «و لا بأس بالأجر على الحكم و القضاء بين الناس و التبرّع

______________________________

(1) الشرائع/ 264، كتاب التجارة.

(2) المسالك 3/ 130، فيما يكتسب به.

(3) مجمع الفائدة و البرهان 8/ 89. كتاب المتاجر.

(4) المقنعة/ 588

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 177

..........

______________________________

بذلك أفضل و أقرب إلى اللّه- تعالى-.» «1»، مع وضوح أنّ القضاء واجب أيضا و لو كفاية ففي كلامه نحو تهافت إلّا أن يريد استثناء القضاء ممّا قبله أو يريد بالأجر الرزق من بيت المال.

و هل التعليل

المذكور أمر انتهى إليه اجتهاده على طبق القواعد أو أنّه حكم كلّي تلقّاه عن المعصومين عليهم السّلام يدا بيد؟.

5- و نظير كلام المفيد ما ذكر تلميذه في النهاية قال: «و أخذ الأجرة على غسل الأموات و حملهم و مواراتهم حرام، لأنّ ذلك فرض على الكفاية على أهل الإسلام.» «2» ثمّ قال- بعد صفحتين-: «و لا بأس بأخذ الأجر و الرزق على الحكم و القضاء بين الناس من جهة السلطان العادل حسب ما قدّمناه ...» «3»

6- و في المراسم أيضا عدّ من المكاسب المحرّمة: «أجر تغسيل الأموات و دفنهم و حملهم.» و من المكروهة: «الأجر على القضاء بين الناس.» «4»

7- و في المهذّب لابن البرّاج ذكر في عداد المكاسب المحرّمة: «و تغسيل الموتى و تكفينهم و حملهم و الصلاة عليهم و دفنهم.» ثمّ ذكر في عداد المكروهة منها:

«و الأجر على القضاء و تنفيذ الأحكام من قبل الإمام العادل.» «5»

أقول: عدّ تغسيل الموتى و تجهيزهم و الصلاة عليهم و دفنهم من المكاسب المحرّمة بمعنى عدم جواز أخذ الأجرة عليها قد اشتهر بين القدماء من أصحابنا و المتأخّرين منهم و أفتوا بها بعبارات مشابهة و لم يصل إلينا من ناحية الأئمّة عليهم السّلام

______________________________

(1) نفس المصدر.

(2) النهاية لشيخ الطائفة/ 365، كتاب المكاسب.

(3) نفس المصدر/ 367.

(4) المراسم/ 169 و 170.

(5) المهذّب 1/ 345 و 346.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 178

..........

______________________________

دليل معتبر على ذلك فيمكن أن يقال: إنّ هذه الشهرة كاشفة عن تلقّيهم ذلك عن الأئمّة عليهم السّلام بعد ما نعلم إجمالا بأنّهم أهل حديث و نصّ و لم يكونوا يفتون بالاعتبارات و الاستحسانات الظنّيّة.

و لكن لا دليل على تسرية هذا الحكم إلى كلّ ما وجب من قبل

اللّه- تعالى- و التعليل الذي مرّ من المقنعة و النهاية يحتمل أن يكون تعليلا استحسانيا من قبلهما، لتقريب الحكم إلى الذهن لا حكما كلّيا تلقياه عنهم عليهم السّلام.

و يحتمل أن يكونا ناظرين إلى ردّ ما حكي عن السيّد المرتضى من عدم وجوب تجهيز الميّت إلّا على أوليائه. «1»

و لعلّ وجوب هذه الأمور ليس بنحو التكليف المحض بل تكون من الحقوق التي اعتبرها الشارع و شرّعها لأموات المسلمين بعد ما انقطعت أيديهم من الدنيا لئلّا تهتك جنائزهم، و من الواضح أنّه لا يجوز أخذ الأجرة لإعطاء حقّ الغير. و لعلّ المفيد و الشيخ أيضا أرادا بكلمة: «الفرض» في كلامهما معنى الحقّ، و بذلك يرتفع التهافت الذي أشرنا إليه.

و بالجملة فلا مجال لأن ينسب إلى القدماء من أصحابنا الإجماع أو الشهرة على عدم جواز الأجرة في قبال كلّ ما وجب من قبل اللّه- تعالى- بسبب إفتائهم بعدم جواز أخذها في قبال الواجبات المرتبطة بالموتى.

ما استدلّ به على حرمة اخذ الأجرة على الواجبات
اشارة

إذا عرفت ما ذكرنا فلنتعرّض إجمالا لما يستدلّ به لعدم جواز أخذ الأجرة على

______________________________

(1) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري/ 61؛ مجمع الفائدة و البرهان 8/ 90، أقسام التجارة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 179

..........

______________________________

الواجب و نحيل التفصيل إلى محلّه فانتظر:

الأوّل: الإجماع

المدّعى في بعض الكلمات. «1»

و فيه ما مرّ آنفا من أنّ المسلّم إفتاء الأصحاب بحرمة أخذ الأجرة على الواجبات المرتبطة بتجهيز الموتى، و لم يثبت الإجماع بالنسبة إلى كلّ واجب.

الثاني: أنّه يشترط في الإجارة أن تكون للعمل المستأجر عليه منفعة

عائدة إلى المستأجر و إلّا كان أخذ الأجرة في قباله أكلا للمال بالباطل، نظير بيع المتاع بثمن لا قيمة له.

و فيه- مضافا إلى ما مرّ مرارا من أنّ الظاهر كون الباء في قوله: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ للسببيّة لا للمقابلة فيراد النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة من القمار و الرشا و نحوهما- أنّا نفرض واجبا يعود نفعه إلى المستأجر كالقضاء العائد نفعه إلى المتحاكمين، و كالإتيان بالواجبات الكفائيّة الموجب لسقوط التكليف بها عن المستأجر.

و بعبارة أخرى: محلّ البحث هو أنّ مجرّد وجوب الشي ء من قبل اللّه- تعالى- هل يكون مانعا من أخذ الأجرة عليه أم لا؟ و هذا بعد فرض تحقّق سائر الشرائط المعتبرة في العمل المستأجر عليه.

الثالث: أنّ أخذ الأجرة مناف للإخلاص

المعتبر في الواجبات العباديّة.

و فيه أوّلا: انتقاض ذلك طردا و عكسا بالمندوبات العباديّة و الواجبات التوصّليّة.

و ثانيا: أنّ مقتضى القاعدة في كلّ عمل مشروع له منفعة محلّلة مقصودة جواز

______________________________

(1) نفس المصدر؛ مجمع الفائدة و البرهان 8/ 89؛ رياض المسائل 1/ 505، كتاب التجارة، السادس من أنواع المكاسب المحرّمة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 180

..........

______________________________

أخذ الأجرة عليه و إن كان داخلا في أحد العناوين الواجبة. ثمّ إن صلح ذلك الفعل المأتي به لامتثال الإيجاب المذكور و إسقاط أمره سقط الوجوب أيضا، و إن لم يصلح استحقّ الأجرة و بقي الواجب في ذمّته إن بقي وقته و إلّا عوقب على تركه، مثلا إذا استأجر أحدا ليصلّي صلاته في حضور أولاد المستأجر ليتعلّموا كيفية الصلاة و آدابها فهذه منفعة محلّلة مقصودة، فإن صلحت هذه الصلاة لإسقاط الأمر المتعلّق بها فهي و إلّا وجب عليه إعادة صلاته امتثالا للأمر المتعلّق بها.

الرابع: ما عن كشف الغطاء في شرحه على القواعد، و هو أنّ التنافي بين صفة الوجوب و التملّك ذاتي،

لأنّ المملوك لا يملك ثانيا. «1»

توضيح ذلك: أنّ العمل إنّما يقابل بالمال إذا كان ممّا يملكه الموجر، فإذا فرض كونه واجبا للّه- تعالى- و لم يكن للمكلّف تركه صار العمل مملوكا له- تعالى- فلا يصلح لأن يملّك ثانيا للغير، ألا ترى أنّه إذا آجر نفسه لعمل خاصّ لزيد مثلا لم يصحّ أن يؤجر نفسه ثانيا من شخص آخر لعين ذلك العمل الخاصّ.

و فيه: أنّ اعتبار الوجوب و طلب الفعل مغاير لاعتبار الملكيّة و الاستحقاق، و ليس الوجوب من قبل الآمر تملّكا منه للعمل حتى ينافي تملّك الآخر له، و لذلك ترى العرف و العقلاء لا يرون تنافيا في كون عمل واحد متعلّقا للطلب من قبل شخصين أو أشخاص في آن واحد، مع بداهة وجود التنافي قطعا

في اجتماع مالكين مستقلّين في آن واحد بالنسبة إلى تمام ملك واحد.

الخامس: ما يأتى من المصنّف في محلّه بالنسبة إلى الواجب العيني

قال: «فإن كان العمل واجبا عينيّا تعينيّا لم يجز أخذ الأجرة لأنّ أخذ الأجرة عليه مع كونه

______________________________

(1) راجع المكاسب للشيخ الأنصاري/ 62.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 181

..........

______________________________

واجبا مقهورا من قبل الشارع على فعله أكل للمال بالباطل، لأنّ عمله هذا لا يكون محترما، لأنّ استيفائه منه لا يتوقّف على طيب نفسه لأنّه يقهر عليه مع عدم طيب النفس و الامتناع.» «1»

و فيه: أنّ الوجوب الشرعي لا يخرج العمل عن كونه اختياريّا للمكلّف و لا يصيّره ضروريّ الحصول نظير الأعمال الاضطراريّة الصادرة من غير إرادة و اختيار كالتنفّس و حركة القلب و أعمال غدد البدن و جهازاته فلا يكون جعل المال بازائه جعلا للمال بإزاء الباطل، لإمكان أن تصير الأجرة داعية للمكلّف نحو العمل بحيث لو لا الأجرة لتركه أو احتمل تركه.

السادس: ما في منية الطالب قال ما ملخّصه:

«يعتبر أن يكون العمل ملكا للمؤجر بأن لا يكون مسلوب الاختيار بايجاب أو تحريم شرعي، لأنّه إن كان واجبا عليه فلا يقدر على تركه، و إن كان محرّما فلا يقدر على فعله و يعتبر في صحّة المعاملة على العمل كون فعله و تركه تحت اختياره.» «2»

و فيه: أنّ بطلان الاستيجار للعمل المحرّم ليس لكونه غير مملوك للأجير و عدم كونه تحت اختياره، لمنع ذلك بحسب الوجدان، بل لكون صحّة العقد عند الشارع بمعنى تنفيذه له و إيجابه الوفاء به و هذا لا يجتمع مع تحريمه للعمل.

و أمّا في الواجب فلا يلزم محذور لما مرّ من أنّ طلب الفعل من المكلّف مغاير لعنوان تملّك الآمر له، و أنّ وجوبه على المكلّف لا يستلزم خروجه عن تحت اختياره و لا يصيّره ضروريّ الحصول خارجا فتدبّر.

و بالجملة فلم نجد دليلا يعتمد عليه في حرمة أخذ

الأجرة على الواجب بنحو

______________________________

(1) نفس المصدر/ 63، في جواز أخذ الأجرة على الواجبات و عدمه.

(2) منية الطالب 1/ 15 (ط. مؤسسة النشر الإسلامي 1/ 45).

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

دراسات في المكاسب المحرمة؛ ج 3، ص: 182

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 182

..........

______________________________

الإطلاق.

ثمّ إنّ الفقهاء أوردوا على القول بحرمة الأجرة على كلّ واجب نقوضا لا بأس بالإشارة إليها:

موارد نقض حرمة الأجرة على الواجبات
الأوّل: الحرف و الصناعات

التي يتوقّف عليها حفظ نظام الاجتماع و يعبّر عنها بالواجبات النظاميّة فإنّها واجبة كفاية بل عينا مع الانحصار، مع جواز أخذ الأجرة عليها بالضرورة، بل بدونه يختلّ النظام كما لا يخفى.

الثاني: إرضاع المرأة اللبأ لمولودها الجديد

حيث يتوقّف عليه حياته و سلامته مع جواز مطالبتها الأجرة لذلك.

الثالث: إعلاف الملتقط للضالّة

مع جواز رجوعه في قيمة العلف إلى صاحبها.

بل و أجرة الإعلاف أيضا.

الرابع: إطعام المضطرّ

المتوقّف عليه حياته مع جواز أخذ العوض منه إن تمكن بل يقهر على ذلك إن امتنع.

الخامس: جواز مطالبة الطبيب للأجرة

مع وجوب الطبابة عليه في بعض الأحيان.

السادس: جواز مطالبة الوصيّ لحقّ الوصاية

مع وجوب العمل بالوصيّة.

السابع: ما مرّ من جماعة من جواز أخذ الأجرة على القضاء مع وجوبه كفاية بل عينا مع الانحصار.

الثامن: جواز أخذ الأجرة للعبادات الاستيجاريّة

من الحجّ و الصلاة و الصيام مع وجوبها على المنوب عنه. هذا.

و أجيب عن الإشكال الأوّل في الواجبات النظاميّة بوجوه منها: أنّ الواجب

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 183

..........

______________________________

أوّلا و بالذات هو حفظ النظام و حفظ النفوس لا أسبابهما. و لا يتوقّف ذلك على التبرّع بأسبابها بل على أصل إيجادها و لو بنحو المعاوضة عليها فلا يجبر العامل على إيجادها مجّانا. و بذلك يظهر الجواب عن سائر النقوض أيضا غير النقض الأخير.

و أمّا في الأخير فالعبادات الاستيجاريّة ليست بواجبة على العامل بل على المنوب عنه، و عمل العامل ليست إلّا النيابة عنه و هي ليست بواجبة فكما يجوز له النيابة عنه مجّانا يجوز له النيابة بعوض. هذا.

و التحقيق في المسألة و بيان أدلّتها و المناقشة فيها تفصيلا يأتي في النوع الخامس من المكاسب المحرّمة فانتظر.

و كيف كان فقد مرّ منّا المناقشة في أصل المسألة و أدلّتها إلّا فيما ثبت كونها واجبة بنحو الحقّ كما هو المحتمل فيما يرتبط بتجهيز الموتى و دفنهم. و على هذا فالظاهر جواز استيجار القضاة و لا سيّما من قبل إمام المسلمين على عهدة بيت المال، و إذا فرض استيجاره من قبله فلا يجوز استيجاره ثانيا من قبل المتحاكمين لعمل كان مشمولا لاستيجار الإمام، لعدم جواز أن يؤجر نفسه من شخصين مستقلّين لعمل واحد بأن يأخذ في قباله أجرتين فتدبّر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 184

[ارتزاق القاضي من بيت المال]
اشارة

و أمّا الارتزاق من بيت المال فلا إشكال في جوازه للقاضي مع حاجته، بل مطلقا إذا رأى الإمام المصلحة فيه. (1)

______________________________

ارتزاق القاضي من بيت المال

(1) أقول: الفرق بين الأجرة و الجعل و بين الارتزاق أنّ في الأجرة و الجعل يقدّر العمل و

العوض و المدّة في ضمن عقد الإجارة أو الجعالة، و أمّا الارتزاق من بيت المال فمنوط بنظر الحاكم من غير أن يقدّر بقدر خاصّ و عقد بينهما. و لنذكر بعض كلمات الأصحاب في المقام لزيادة البصيرة:

[بعض كلمات الأصحاب في المقام]

1- قال الشيخ في مكاسب النهاية: «و متى ما تولّى شيئا من أمور السّلطان من الإمارة و الجباية و القضاء و غير ذلك من أنواع الولايات فلا بأس أن يقبل على ذلك الأرزاق و الجوائز و الصّلات فإن كان ذلك من جهة سلطان عادل كان ذلك حلالا له طلقا، و إن كان من جهة سلطان الجور فقد رخّص له في قبول ذلك من جهتهم، لأنّ له حظّا في بيت المال.» «1»

أقول: أراد هو لا محالة صورة جواز قبول العمل و الولاية من قبلهم، و كون القاضي واجدا لشرائط القضاء. و إطلاق كلامه يشمل صورة عدم احتياج القاضي أيضا.

2- و للشيخ «ره» في آداب القضاء من المبسوط كلام تعرّض فيه لضابطة موارد أخذ الأجرة و موارد أخذ الرزق و موارد عدم جواز أخذهما يعجبني ذكره و إن كان لا يخلو بعضه من المناقشة قال: «و أمّا ما يجوز أن يستأجر عليه و ما لا يجوز فقد ذكرناه في غير موضع: و جملته أنّ كلّ عمل جاز أن يفعله الغير عن

______________________________

(1) النهاية لشيخ الطائفة/ 357.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 185

..........

______________________________

الغير تبرّعا جاز أن يفعله بعقد إجارة كالخياطة و البناء، و كلّ عمل لا يفعله الغير عن الغير و إذا فعله عن نفسه عاد نفعه إلى الغير جاز أخذ الرزق عليه دون الأجرة كالقضاء و الخلافة و الإمامة و الإقامة و الأذان و الجهاد.

و قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة

عليه، و أجاز أصحابنا ذلك، و أجاز قوم أخذ الأجرة على القضاء، و هو فاسد عندنا. و كلّ ما لا يفعله الغير عن الغير و إذا فعله عن نفسه لم يعد نفعه إلى الغير لم يجز أخذ الأجرة عليه و لا أخذ الرزق كالصلوات المفروضات و التطوّع، و كذلك الصيام. فإذا ثبت أنّه يأخذ الرزق فإنّه يأخذه من بيت المال، لأنّه معدّ للمصالح، و هذا منها.» «1»

أقول: وجه حصره صحّة الإجارة على صورة النيابة عن الغير و حكمه بعدم الصحّة فيما يفعله عن نفسه و يعود نفعه إلى الغير غير واضح إلّا أن يريد أنّه حينئذ أكل للمال بلا عوض و كأنّ الأجير جمع بين المعوّض و العوض.

و الظاهر أنّ قوله: «و قالوا» أراد بذلك أنّ أهل السنّة قالوا: لا يجوز أخذ الأجرة على الجهاد و قوله: «و أجاز أصحابنا ذلك» إشارة إلى إفتائهم بالجواز لرواية أبي البختري عن جعفر بن محمّد عن أبيه عليه السّلام أنّ عليّا سئل عن إجعال الغزو فقال عليه السّلام: «لا بأس به أن يغزو الرجل عن الرجل و يأخذ منه الجعل.» «2» هذا.

و لكن مورد الرواية الغزو نيابة عن الغير لا عن نفسه كما هو واضح.

و قوله: «و هو فاسد عندنا» يشعر بإجماعنا على عدم جواز أخذ الأجرة على القضاء، و هذا ينافي ما مرّ من الجواز عن المقنعة و النهاية و المهذّب إلّا أن يريد الأجرة من قبل المتحاكمين لا الإمام فيوافق ما مرّ منه في الخلاف و يحمل كلمات

______________________________

(1) المبسوط 8/ 160.

(2) الوسائل 11/ 22، كتاب الجهاد، الباب 8 من أبواب جهاد العدوّ، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 186

..........

______________________________

المجوّزين على الأخذ من الإمام.

3-

و في آداب القضاء من المبسوط أيضا ما ملخّصه: «و أمّا من يحلّ له أخذ الرزق عليه و من لا يحلّ فجملته أنّ القاضي إمّا أن يكون ممّن تعيّن عليه القضاء أو لم يتعيّن عليه، فإن كان ممّن يجوز له القضاء و لم يتعيّن عليه فإمّا أن يكون له كفاية أو لا كفاية له، فإن لم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق، و إن كانت له كفاية فالمستحبّ أن لا يأخذ فإن أخذ جاز، و جواز أخذ الرزق للقضاء إجماع، و لأنّ بيت المال للمصالح و هذا منها. فأمّا إن تعيّن عليه القضاء، فإمّا أن يكون له كفاية أو لا كفاية له، فإن كانت له كفاية حرم عليه أخذ الرزق، لأنّه يؤدي فرضا قد تعيّن عليه، و إن لم يكن له كفاية حلّ ذلك له، لأنّ عليه فرض النفقة على عياله و فرضا آخر و هو القضاء. و إذا أخذ الرزق جمع بين الفرضين، و الجمع بين الفرضين أولى من إسقاط أحدهما، هذا عندنا و عندهم.» «1»

أقول: على فرض عدم جواز أخذ الأجرة في قبال الواجب العيني فإسراء حكمه إلى أخذ الرزق مشكل، إذ ليس الرزق في قبال العمل و إنّما هو أمر يعطيه الحاكم بلحاظ ما يراه صلاحا، اللّهم إلّا أن يمنع وجود المصلحة في الإعطاء لمن لا يحتاج.

ثمّ على فرض عدم الجواز بلحاظ تعيّن الواجب فحاجته لا تحلّل الحرام، اللّهم إلّا أن يكون ملاك الجواز أقوى و أهمّ أو مساويا لملاك الحرمة.

4- و في قضاء الشرائع: «الخامسة: إذا ولّى من لا يتعيّن عليه القضاء فإن كانت له كفاية من ماله فالأفضل أن لا يطلب الرزق من بيت المال، و لو طلب جاز،

لأنّه من المصالح. و إن تعيّن للقضاء و لم يكن له كفاية جاز له أخذ الرزق،

______________________________

(1) المبسوط 8/ 84.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 187

[الدليل على الجواز]

لما سيجي ء من الأخبار الواردة في مصارف الأراضي الخراجيّة. (1)

و يدلّ عليه ما كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى مالك الأشتر من قوله:

______________________________

و إن كان له كفاية قيل: لا يجوز له أخذ الرزق لأنّه يؤدي فرضا.» «1»

أقول: نسبة الحكم الأخير إلى القول يشعر بمناقشته فيه، لما مرّ من الفرق بين الأجرة المبتنية على المعاوضة و بين الرزق المنوط بنظر الحاكم، و لو كان وجوب العمل عينا مانعا من أخذ الرزق فإطلاق دليله يقتضي عدم الفرق بين صورة الحاجة و غيرها.

(1) كقوله عليه السّلام في مرسلة حمّاد بن عيسى عن بعض أصحابنا- التي تقرب من الصحيحة كما لا يخفى- عن العبد الصالح عليه السّلام: «و الأرضون التي أخذت عنوة بخيل و رجال ... فإذا أخرج منها ما أخرج بدأ فأخرج منه العشر ... و يؤخذ بعد ما بقي من العشر فيقسّم بين الوالي و بين شركائه الذين هم عمّال الأرض و أكرتها فيدفع إليهم أنصباؤهم على ما صالحهم عليه. و يؤخذ الباقي فيكون بعد ذلك أرزاق أعوانه على دين اللّه و في مصلحة ما ينوبه من تقوية الإسلام و تقوية الدين في وجوه الجهاد و غير ذلك ممّا فيه مصلحة العامّة.» «2»

و من الواضح أنّ القضاء و تأمين معيشة القاضي الصالح و رفع حاجاته و تشويقه من أهمّ المصالح العامّة، و المصلحة لا تدور مدار الحاجة و لو سلّم فللحاجة مراتب تختلف بحسب شرائط المحيط و أسباب التعيّش في كلّ عصر و شئون القاضي و عائلته.

______________________________

(1) الشرائع/ 862.

(2) الكافي 1/

541، كتاب الحجّة، باب الفي ء و الأنفال ...، الحديث 4.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 188

«و افسح له- أي للقاضي- في البذل ما يزيح علّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس.» (1)

[لا فرق بين أن يأخذ من السلطان العادل أو من الجائر]

و لا فرق بين أن يأخذ الرزق من السلطان العادل أو من الجائر لما سيجي ء

______________________________

(1) قال عليه السّلام- بعد ذكر الأوصاف و الشرائط لمن ينتخب للقضاء-: «ثمّ أكثر تعاهد قضائه و افسح له في البدل ما يزيل علّته و تقلّ معه حاجته إلى الناس، و أعطه من المنزلة لديك ما لا يطمع فيه غيره من خاصّتك، ليأمن بذلك اغتيال الرجال له عندك.» «1»

فحيث إنّ انسجام النظام و سلامة الملك يتوقّف على سلامة أمر القضاء، و لا يحصل ذلك إلّا باستقلال القاضي و قوّته في الاقتصاد و السياسة أمر أمير المؤمنين عليه السّلام مالكا برعاية ذلك حتّى لا يطمع الخواصّ فضلا عن الأجانب في إجبار القاضي و إخضاعه أو استمالته و إطماعه.

و قد تعرّضنا لسند عهده عليه السّلام إلى مالك إجمالا في آخر المجلد الرابع من الدراسات في ولاية الفقيه نقلا عن النجاشي و فهرست الشيخ فراجع «2» هذا مضافا إلى أنّ نفس مضامين العهد الشريف و محتوياته أقوى شاهد على صدوره إجمالا عن منبع العلم الإلهي و معدنه. فما في مصباح الفقاهة «3» من نقله مرسلا ممنوع إلّا أن يريد أنّ السيّد الرضي نقله مرسلا.

______________________________

(1) نهج البلاغة، فيض 5/ 1010؛ عبده 3/ 105؛ لح/ 435؛ الكتاب 53.

(2) راجع دراسات في ولاية الفقيه 4/ 304.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 268.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 189

من حليّة بيت المال لأهله و لو خرج من يد الجائر. (1)

و أمّا ما تقدم في صحيحة ابن

سنان من المنع من أخذ الرزق من السلطان فقد عرفت الحال فيه. (2)

و أمّا الهدية و هي ما يبذله على وجه الهبة ليورث المودّة الموجبة للحكم له حقّا كان أو باطلا و إن لم يقصد المبذول له الحكم إلّا بالحق إذا عرف- و لو من القرائن- أنّ الأوّل قصد الحكم له على كلّ تقدير.

______________________________

(1) لا يخفى أنّ القضاة على أقسام:

الأوّل: أن يكون القاضي جامعا لشرائط القضاء المعتبرة من قبل الشارع و منصوبا من قبل الإمام العادل.

الثاني: أن يكون جامعا للشرائط و لكنّه منصوب من قبل الجائر، و إنّما قبل ذلك رعاية لمصلحة الشيعة و مصالح الإسلام.

الثالث: أن يكون جامعا للشرائط غير العدالة منصوبا من قبل الجائر، و إنّما قبله حبّا للجاه و المقام.

الرابع: أن لا يكون جامعا للشرائط سواء لم يكن منصوبا أو يكون منصوبا من قبل الجائر.

فالقسمان الأوّلان يجوز قضائهما و كذا ارتزاقهما من بيت المال و إن فرض أخذه من يد الجائر، لما ورد عنهم عليهم السّلام من تنفيذ ذلك. و أمّا الأخيران فأخذهما منه بعنوان منصب القضاء حرام بلا إشكال.

(2) من كون المراد فيها القاضي الذي ليس أهلا للقضاء، لعدم كونه واجدا لشرائطه أو لكونه منصوبا من قبل الجائر كما كان هو الغالب و المبتلى به في تلك

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 190

[الفرق بين الهدية و الرشوة]

فيكون الفرق بينها و بين الرشوة أنّ الرشوة تبذل لأجل الحكم، و الهدية تبذل لإيراث الحبّ المحرّك له (1) على الحكم على وفق مطلبه،

______________________________

الأعصار. و فسّر بعضهم الرزق في الصحيحة بالأجرة و قد مرّ أنّه خلاف الظاهر.

(1) قال المحقّق الإيرواني «ره» في الحاشية: «بل الهدية تبذل لأجل إلجاء المهدى إليه إلى الحكم إلجاء عرفيّا من باب

هَلْ جَزٰاءُ الْإِحْسٰانِ إِلَّا الْإِحْسٰانُ من غير التفات إلى الحبّ و لا غرض في الحبّ، بل في العادة لا يورث مثل هذه الهدايا التي هي لأغراض شخصيّة حبّا.» «1»

ثمّ لا يخفى أنّ الهدية إمّا أنّ تهدى قبل الحكم و إمّا أن تهدى بعده، و في كلّ منهما إمّا أن تعطى قربة إلى اللّه- تعالى- و إمّا أن تعطى لأجل الرابطة الشخصيّة بينهما، أو لأجل قضاء بعض حاجات المهدي، أو لأجل تصدّي أمر القضاء، أو لأجل الحكم بالحقّ، أو لأجل الحكم بالباطل، أو لأجل الحكم بنفع المعطي حقّا كان أو باطلا.

و ربّما يقال: إنّ القاعدة الأوّلية تقتضي الصحّة في الجميع، للفرق بينها و بين الرشوة موضوعا بلحاظ أنّ الرشوة ترجع إلى المعاملة و المقابلة بين المال و بين الحكم، و هذا بخلاف الهدية فإنّها من باب الهبة و هي عقد صحيح، و الأمور المذكورة كلّها من قبيل الداعي لها، و الداعي لا يصير قيدا في العقد حتى يبطل لأجله فالحكم بعدم صحّة الهبة و حرمة المال يحتاج إلى دليل.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 191

[أدلّة حرمة الهدية للقاضي]
اشارة

فالظاهر حرمتها، لأنّها رشوة أو بحكمها بتنقيح المناط. (1)

و عليه يحمل ما تقدّم من قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «و إن أخذ- يعني الوالي- هديّة كان غلولا.»

و ما ورد من: «أنّ هدايا العمّال غلول» و في آخر: «سحت.»

______________________________

أدلّة حرمة الهدية للقاضي:

(1) قد استدل على الحرمة بوجوه:

الأوّل: أدلّة حرمة الرشوة

بتوهّم شمولها للهدية حسب إطلاق بعض التفاسير لها مثل قوله في المصباح المنير: «الرشوة- بالكسر-: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد»، «1» لشمول ذلك ما إذا كان بنحو الداعي أيضا.

و فيه أوّلا: عدم جريان ذلك في بعض الأقسام التي مرّت و لا سيّما ما يهدى بعد الحكم و لا سيّما إذا أهداها له قربة إلى اللّه- تعالى- تشويقا له على دقّته في الحكم و رعايته الحقّ و العدالة في جميع المراحل.

و ثانيا: أنّ الظاهر من الرشوة خصوص صورة المصانعة و المقابلة. و في رواية الأصبغ بن نباته ذكر الهدية قسيما للرشوة فهما أمران متغايران.

الثاني: ثبوت مناط الرشوة

و إن افترقتا موضوعا، لوضوح أنّ مناط حرمة الرشوة استمالة القاضي و إخضاعه بسبب المال بحيث ينحرف بذلك عن العدالة و

______________________________

(1) المصباح المنير 1/ 310.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 192

و عن عيون الأخبار عن مولانا أبي الحسن الرضا عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام في تفسير قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ قال:

«هو الرجل يقضي لأخيه حاجته ثمّ يقبل هديّته.»

و للرواية توجيهات تكون الرواية على بعضها محمولة على ظاهرها من التحريم، و على بعضها محمولة على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدايا من أهل الحاجة إليه لئلّا يقع في الرشوة يوما.

______________________________

الحكم بالحقّ.

و أجاب المحقّق الإيرواني «ره» عن ذلك بعدم القطع بالمناط و إلّا حرم طرح الألفة مع القاضي لأجل هذا الداعي. «1»

أقول: الظاهر ثبوت الاطمئنان بالمناط المذكور بالنسبة إلى بعض أقسام الهدايا، و الألفة مع القاضي أيضا إذا كانت لغرض استمالته إلى طرف الباطل و الجور ممّا يطمئن النفس بحرمتها.

الثالث: أنّ أكلها أكل للمال بالباطل،

إذ وقع بداعي أمر محرّم و هو الحكم بالباطل فيشملها قوله تعالى: وَ لٰا تَأْكُلُوا أَمْوٰالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبٰاطِلِ. «2»

و فيه أوّلا: عدم جريان ذلك في بعض الأقسام التي مرّت.

و ثانيا: عدم كون الإهداء بنحو المقابلة بل بنحو الداعي كما مرّ.

و ثالثا: ما مرّ مرارا من أنّ الباء في قوله: «بالباطل» للسببيّة لا للمقابلة فيراد بها النهي عن أكل مال الغير بالأسباب الباطلة من السرقة و الرشوة و القمار و نحوها، و لا نظر فيها إلى وجود العوض و عدمه. هذا.

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 26.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 188.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 193

..........

______________________________

و لكن يمكن تتميم هذا الاستدلال بأنّ قوله تعالى: وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً

مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ. «1» يشمل ما يهدى بداعي الحكم بالباطل أيضا و اللام كما تستعمل للغاية تستعمل للعاقبة أيضا فتأمّل.

الرابع: الأخبار المستفيضة الواردة في المقام
اشارة

و قد تعرّض المصنّف لبعضها:

الأوّل: ما مرّ في رواية الأصبغ بن نباتة

عن أمير المؤمنين عليه السّلام من قوله: «و إن أخذ هدية كان غلولا و إن أخذ الرشوة فهو مشرك.» «2» و الغلول من غلّ يغلّ غلولا- من باب نصر-: إذا خان، فيراد أنّ أخذ الهدية خيانة بمقام الولاية.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الرواية بما ملخّصه: «أوّلا: أنّ الرواية ضعيفة السند و ثانيا: أنّها واردة في هدايا الولاة دون القضاة، و بما أنّ الهديّة إلى الولاة جائزة فلا بدّ من حمل الرواية على بعض الوجوه الممكنة:

الأوّل: أن تحمل على الكراهة.

الثاني: أن تحمل على ظاهرها و لكن يقيّد الإعطاء بكونه لدفع الظلم أو إنقاذ الحقّ أو لأجل أن يظلم غيره فإنّها في هذه الصور محرّمة على الوالي، و في الصورة الأخيرة على المعطي أيضا.

الثالث: أن تحمل على كون ولايتهم من قبل السلطان مشروطة بعدم أخذ شي ء من الرعيّة.» «3»

أقول: لا يخفى أنّ القضاة أيضا من الولاة، و القضاء من أهمّ الولايات، و الحمل على الكراهة خلاف الظاهر. و الظاهر أن تحمل على الموارد الغالبة من

______________________________

(1) نفس الآية السابقة.

(2) الوسائل 12/ 63، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 10.

(3) مصباح الفقاهة 1/ 270.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 194

..........

______________________________

كون الإهداء إلى الولاة و لا سيّما القضاة لأغراض فاسدة بحيث يوجد فيها مناط الرشوة، و يعرف ذلك بمناسبة الحكم و الموضوع.

الثاني من الأخبار: ما رواه جابر

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «هدية الأمراء غلول.» «1»

و في آداب القضاء من المبسوط قال: «روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «هدية العمّال غلول.» و في بعضها: «هدية العمّال سحت.» «2»

و في سنن البيهقي بسنده عن أبي حميد السّاعدي قال: قال

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هدايا الأمراء غلول.» «3»

و في الدر المنثور في تفسير قوله- تعالى- في سورة المائدة: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هدايا الأمراء سحت.» «4»

أقول: الظاهر رجوع هذه الروايات إلى رواية واحدة أو روايتين، و ليس فيها ما يعتمد على سنده.

اللّهم إلّا أن يحصل بسبب استفاضة النقل الوثوق بصدور بعضها لا محالة، و لفظ السّحت و إن أطلق في بعض الأخبار على بعض المكروهات أيضا نظير كسب الحجّام مثلا و لكن ظاهره الحرمة فيحمل عليها إلّا أن يثبت خلافها. هذا.

و ظاهر تعليق الحكم على وصف دخالته فيه فيراد صورة كون الإهداء للشخص بما أنّه أمير أو عامل فلا يشمل إهداء الشخص لرحمه أو لرفيقه المعاشر له

______________________________

(1) الوسائل 18/ 163، الباب 8 من أبواب آداب القاضي، الحديث 6.

(2) المبسوط 8/ 151.

(3) سنن البيهقي 10/ 138، كتاب آداب القاضي، باب لا يقبل منه هدية.

(4) الدر المنثور 2/ 284.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 195

..........

______________________________

و إن كان من العمّال إذا لم يكن الإهداء بلحاظ عمله و إمارته. و القضاة أيضا من العمّال كما مرّ.

و الغالب في الإهداء إلى هذه الطبقات كونه لأغراض فاسدة مظنونة أو متوقّعة منهم فتكون بحكم الرشوة و تنصرف الروايات عن صورة كون الإهداء بقصد القربة تشويقا للقاضي العادل النافع للمجتمع أو لكونه من أقاربه أو جيرانه مثلا.

و ربّما احتمل أن يكون إضافة الهدايا إلى العمّال أو الأمراء من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله فيراد بها الهدايا الواصلة من قبل عمّال السّلاطين إلى الرعية، فتكون الروايات ناظرة إلى جوائز السّلطان و عمّاله، و

حيث إنّها ممّا أذن الأئمّة عليهم السّلام في أخذها فلا محالة تحمل الروايات على صورة العلم بكون الهدايا من الأموال المحرّمة. هذا.

و لكن الاحتمال المذكور خلاف الظاهر جدّا. مضافا إلى أنّ مشابهة متن هذه الروايات لما في رواية الأصبغ قرينة على إرادة أخذ العمّال للهدية فتدبّر.

الثالث من الأخبار: ما رواه في العيون

بأسانيده عن الرضا عليه السّلام عن أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله- تعالى-: أَكّٰالُونَ لِلسُّحْتِ قال: «هو الرجل يقضي لأخيه الحاجة ثمّ يقبل هديّته.» «1»

و حيث إنّ ظاهر الرواية ممّا لا يمكن الالتزام به، إذ لو قضى أحد حاجة أخيه المسلم قربة إلى اللّه- تعالى- أو لاقتضاء الأخوة و الرفاقة ذلك و بعد ذلك أهدى له أخوه هدية لم يكن وجه لحرمة قبولها أشار المصنّف إلى لزوم التوجيه في الرواية.

فلا بدّ أن تحمل الحاجة على حاجة لا يجوز أخذ الأجرة بإزاء قضائها ككونه

______________________________

(1) الوسائل 12/ 64، الباب 5 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 11.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 196

..........

______________________________

قاضيا أو عاملا منصوبا من قبل الإمام بشرط أن يعمل مجّانا، أو تحمل على الرشوة على الحكم إذا وعدها إجمالا قبل الحكم و إن لم يعيّن مقدارها ثمّ أعطاها بعده فقبلها كما هو المتعارف بين أهل الارتشاء، أو تحمل لفظة «ثمّ» على الترتيب الذكري، أو تحمل الرواية على المبالغة في رجحان التجنّب عن قبول الهدية لئلّا يقع يوما في الرشوة فإنّه إذا ذاق حلاوة المال المجان أمكن أن يوسوسه نفسه الأمّارة في المستقبل إلى مطالبة الرشوة و قبولها.

و لفظ السحت و إن كان ظاهرا في الحرمة إلّا أنّه ليس صريحا فيها، لما مرّ من أنّه بمعنى المال الذي يلزم صاحبه العار، و لذا أطلق في بعض الأخبار

على كسب الحجّام و نحوه ممّا يقطع بعدم حرمته.

و كيف كان فمع تمشّي هذه الاحتمالات يشكل الاستدلال بالخبر على الحرمة في المقام، مضافا إلى ضعف سندها.

الرابع من الأخبار: ما رواه في المستدرك

عن دعائم الإسلام فيما كتبه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى رفاعة لمّا استقضاه على الأهواز: «إيّاك و قبول التحف من الخصوم.» «1»

الخامس: ما رواه أبو داود في السنن

بسنده عن بريدة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من استعملناه على عمل فرزقناه رزقا فما أخذ بعد ذلك فهو غلول.» «2»

السادس: ما رواه أبو داود أيضا بسنده عن أبي أمامة

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من شفع لأخيه بشفاعة فأهدى له هدية عليها فقبلها فقد أتى بابا عظيما من أبواب

______________________________

(1) مستدرك الوسائل 3/ 195، الباب 1 من أبواب آداب القاضي.

(2) سنن أبي داود 2/ 121، كتاب الخراج و الإمارة و الفي ء، باب في أرزاق العمّال، الرقم 2943.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 197

..........

______________________________

الربا.» «1»

السابع: ما رواه الترمذي بسنده عن معاذ بن جبل قال:

بعثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اليمن فلمّا سرت أرسل في أثري فرددت فقال: «أ تدري لم بعثت إليك؟ قال:

لا تصيبنّ شيئا بغير إذني فإنّه غلول، و من يغلل يأت بما غلّ يوم القيامة، لهذا دعوتك فأمض لعملك.» «2»

أقول: يجاب عن هذه الأخبار- مضافا إلى ضعفها سندا- بأنّ محطّ أكثرها أن يرزق العامل من قبل الإمام و يشترط عليه عدم أخذ شي ء من الناس فيكون أخذه خيانة بالنسبة إلى منصبه و مستعمله.

الثامن: قصّة إهداء الأشعث بن قيس إلى أمير المؤمنين عليه السّلام.

ففي نهج البلاغة: «و أعجب من ذلك طارق طرقنا، بملفوفة في وعائها و معجونة شنئتها كأنّما عجنت بريق حيّة أو قيئها، فقلت: أصلة أم زكاة أم صدقة؟

فذلك محرّم علينا أهل البيت. فقال: لا ذا و لا ذاك و لكنّها هدية، فقلت:

هبلتك الهبول أعن دين اللّه أتيتني لتخدعني أ مختبط أم ذو جنّة أم تهجر، و اللّه لو أعطيت الأقاليم السّبعة بما تحت أفلاكها على أن أعصى اللّه في نملة أسلبها جلب شعيرة ما فعلت الحديث.» «3»

أقول: الظاهر من كلامه عليه السّلام: أنّ الأشعث أراد بهديّته هذه حكم الإمام عليه السّلام باطلا بنفعه، و في مثل ذلك يجري ملاك الرشوة قطعا.

التاسع: ما ورد في زجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمّال الصدقة عن قبول الهدية

بناء على

______________________________

(1) سنن أبي داود 2/ 261، كتاب البيوع، باب الهدية لقضاء الحاجة، الرقم 3541.

(2) سنن الترمذي 2/ 396، الباب 8 من أبواب الأحكام، الرقم 1335.

(3) نهج البلاغة، فيض 4/ 713؛ عبده 2/ 244؛ لح/ 347؛ الخطبة 224.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 198

..........

______________________________

إسرائه إلى مطلق العمّال بإلغاء الخصوصيّة.

ففي آداب القضاء من المبسوط: «روى أبو حميد السّاعدي قال: استعمل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من الأسد يقال له: «أبو البنية» و في بعضها: «أبو الأبنية» على الصدقة فلمّا قدم قال: هذا لكم و هذا أهدي إليّ. فقام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فقال:

«ما بال العامل نبعثه على أعمالنا يقول: هذا لكم و هذا أهدي إليّ فهلّا جلس في بيت أبيه أو في بيت أمّه ينظر يهدى له أم لا؟ و الذي نفسي بيده لا يأخذ أحد منها شيئا إلّا جاء يوم القيامة يحمله على رقبته إن كان بعيرا له رغاء أو بقرة لها خوار

أو شاة لها تنعر.» ثمّ رفع يده حتى رأينا عفرة إبطيه ثمّ قال: «اللّهم هل بلّغت اللّهم هل بلّغت.» «1»

و في صحيح مسلم بسنده عن أبي حميد السّاعدي قال: استعمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من الأسد يقال له: «ابن اللتبيّة» على الصدقة فلمّا قدم قال: هذا لكم و هذا لي أهدي لي. قال: فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فحمد اللّه و أثنى عليه و قال: «ما بال العامل أبعثه فيقول: هذا لكم و هذا أهدي لي، أ فلا قعد في بيت أبيه أو في بيت أمّه حتّى ينظر أ يهدى له أم لا؟ و الذي نفس محمّد بيده لا ينال أحد منكم منها شيئا إلّا جاء به يوم القيامة يحمله على عنقه بعير له رغاء أو بقرة لها خوار أو شاة تيعر.» ثمّ رفع يديه حتى رأينا عفرتي إبطيه ثمّ قال: «اللّهم هل بلّغت؟» مرتين. و روي فيه هذه الرواية بطرق مختلفة فراجع. «2»

أقول: في النهاية: «يعرت العنز تيعر بالكسر يعارا بالضم أي صاحت.» و النعير أيضا بمعنى الصوت «3» و عفرة الإبط بالضم و الفاء: بياضه، و الظاهر أنّ

______________________________

(1) المبسوط 8/ 151.

(2) صحيح مسلم 3/ 1463، كتاب الإمارة، باب تحريم هدايا العمّال، الحديث 26.

(3) النهاية لابن الأثير 5/ 297 و 80.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 199

..........

______________________________

العقرة في المبسوط غلط، و الرغاء بالضم: صوت الإبل، و الخوار: صوت البقر. و في أسد الغابة ذكر ابن اللتبيّة كما في مسلم و أشار إلى الحديث أيضا «1»

و الظاهر أنّ المبسوط أخذ الحديث من صحيح مسلم أو غيره من كتب العامّة، و

في نقله وقع التصحيف كما ترى.

و يظهر من الحديث أنّه لا يجوز للعمّال و المسئولين سوء الاستفادة من شئونهم السياسيّة و موقعيتهم الاجتماعية. هذا.

و أجاب في مصباح الفقاهة عن الاستدلال بالحديث: أوّلا بأنّ الرواية ضعيفة السند، لكونها منقولة من طرق العامّة. و ثانيا: أنّها وردت في عمّال الصدقة فلا ترتبط بما نحن فيه. «2»

أقول: إلغاء الخصوصيّة في أمثال المقام قويّ جدّا، للاطمينان بعدم الخصوصيّة.

______________________________

(1) أسد الغابة 5/ 329، ابن اللتبيّة، و 3/ 250 في عبد اللّه بن اللتبيّة.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 271.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 200

[هل تحرم الرشوة في غير الحكم؟]
اشارة

و هل تحرم الرشوة في غير الحكم بناء على صدقها- كما يظهر ممّا تقدّم عن المصباح و النهاية. (1)- كأن يبذل له مالا على أن يصلح أمره عند الأمير؟. فإن كان أمره منحصرا في المحرّم، أو مشتركا بينه و بين المحلّل لكن بذل على إصلاحه حراما أو حلالا. (2) فالظاهر حرمته. لا لأجل

______________________________

هل تحرم الرشوة في غير الحكم؟

[معنى الرشوة]

(1) عبارة المصباح كانت هكذا: «الرشوة بالكسر: ما يعطيه الشخص الحاكم و غيره ليحكم له أو يحمله على ما يريد.» «1» و الجملة الأخيرة يحتمل أن يراد بها حمل المعطي غير الحاكم على ما يريده، و يحتمل أن يراد حمل الغير الحاكم على ما يريده المعطي. فعلى الأوّل تشمل العبارة غير باب الحكم أيضا، و على الثاني تختصّ بباب الحكم كما لا يخفى.

و عبارة النهاية كانت هكذا: «الرشوة و الرشوة: الوصلة إلى الحاجة بالمصانعة، و أصله من الرشاء الذي يتوصّل به إلى الماء، فالراشي: من يطعي الذي يعينه على الباطل.» فعبارته تشمل غير باب الحكم أيضا.

و قد مرّ منّا: أنّ نظام الحكم و البرامج الاجتماعية و الإدارية كلّها أسّست و شرّعت على أساس حفظ الحقوق و تأمين العدالة الاجتماعية، و على القضاة و العمّال رعاية ذلك فكلّما يعطى بداعي تحريفها عن مسيرها الحقّ و سوء الاستفادة منها أو دفع سوء استفادة المسئولين و دفع ظلمهم يسمّى رشوة من غير فرق بين القضاء و غيره فتدبّر.

(2) يعني إصلاح أمره بنفعه سواء كان حراما أو حلالا. هذا.

______________________________

(1) المصباح المنير 1/ 310.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 201

الرشوة، لعدم الدليل عليه عدا بعض الإطلاقات المنصرف إلى الرشا في الحكم، بل لأنّه أكل للمال بالباطل. فتكون الحرمة هنا لأجل

______________________________

و المصنّف

قسّم الرشوة لغير الحكم على ثلاثة أقسام، إذ الراشي إمّا أن يطلب بها إصلاح أمره الحلال و بوجه حلال أو إصلاح أمره الحرام، أو إصلاح أمره بنفعه كيفما اتفق و لو حراما و بطريق حرام.

و لا يخفى أنّ الأوّل ممّا لا إشكال في جوازه تكليفا و وضعا، إذ عمل المسلم محترم فيجوز الاستيجار له و إعطاء العوض في مقابله و يشمله قوله: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ، بل يشكل إطلاق لفظ الرشوة حينئذ، لما عرفت من أنّ الظاهر من اللفظ هو ما يعطى لتحريف نظام الحكم أو غيره من الأنظمة عن مسيره الحقّ، أو لإحقاق الحقّ و دفع الظلم عن نفسه.

و إطلاقها على ما يعطى في قبال تفويض الغير حقّه في المنزل المشترك- كما يأتي في كلام المصنّف- لعلّه من جهة عدم توقّع أخذ العوض في مثله غالبا فأطلق مجازا.

و أمّا الثاني أعني ما يعطى في قبال الأمر الحرام فلا إشكال في حرمته تكليفا و وضعا و كذا الثالث أيضا، إذ التصريح بكون العمل واقعا بنفع المستأجر سواء وقع حلالا أو وقع حراما و بطريق حرام يخرج العمل عن كونه حلالا شرعا. و ليس الجامع بين الحلال و الحرام بحلال، نعم لو وقع العقد بنحو الإطلاق انصرف قهرا إلى المصاديق المحلّلة فتدبّر.

و المصنّف أيضا ساق القسمين على مساق واحد.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 202

و يستدلّ للحرمة فيهما بوجوه:
الأوّل: أنّه لا ماليّة شرعا لما يكون حراما من الذوات و الأعمال،

______________________________

و قد مرّ في أوّل المكاسب ما يدلّ من الأدلّة العامّة على أنّ اللّه- تعالى- إذا حرّم شيئا حرّم ثمنه فراجع.

الثاني: إطلاق أدلّة حرمة الرشوة

و قد مرّت، و ظاهرها الحرمة تكليفا و وضعا. و لكنّ المصنّف يناقش كما ترى في شمولها للمقام بتقريب أنّ مورد أكثر الروايات هو الرشا في الحكم، و أنّ المطلقات منها أيضا تنصرف إلى ذلك.

و لكن يمكن أن يجاب بأنّ تقييد الرشا في أكثر الأخبار بالحكم يدلّ بنفسه على أنّ مفهوم الرشا أعمّ و يساعده العرف أيضا. و الظاهر أنّ التقييد به في بعض الأخبار ليس لخصوصيّة فيه، بل من جهة الغلبة المتحقّقة في تلك الأعصار حيث إنّ المبتلى بها من الرشوة كان ما يعطى للقضاة، و هو المصرّح به في الكتاب العزيز أيضا حيث قال: وَ تُدْلُوا بِهٰا إِلَى الْحُكّٰامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوٰالِ النّٰاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ. «1»

و لكن ينسبق إلى الذهن من ذلك أنّ كلّ مال يوجب إعطائه أكل مال الغير أو تضييع بعض حقوقه فهو بحكم الرشوة ملاكا و حكما.

و بالجملة لا خصوصيّة لمال الغير و لا لحكم القاضي، بل يسري الحكم إلى جميع الحقوق و إلى غير الحكم أيضا، و إنّما وقع الحكم مطرحا في الكتاب و السنّة لكثرة الابتلاء به في جميع الأعصار، و القيد الوارد مورد الغالب لا مفهوم له فيبقى المطلقات على إطلاقها بل يمكن إلغاء الخصوصيّة في المقيّدات منها أيضا.

______________________________

(1) سورة البقرة (2)، الآية 188.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 203

الفساد. (1)

الثالث: ما ذكره المصنّف من كونه أكلا للمال بالباطل

______________________________

و هذا إشارة منه إلى الآية الشريفة.

و لكن يرد عليه: ما مرّ مرارا من أنّ الظاهر كون الباء في قوله: «بالباطل» للسببيّة لا للمقابلة التي تدخل على العوض في المعاوضات، فليست الآية ناظرة إلى وجود العوض و عدمه فضلا عن كونه حقّا أو باطلا.

(1) أقول: التقييد به «هنا» في المقام يحتمل فيه

و جهان:

الأوّل: أن يكون في قبال الرشوة في باب الحكم بأن يقال: إنّ الظاهر من التأكيدات الواردة في الرشوة في الحكم- كإطلاق الشرك و الكفر عليها- كونها محرّمة تكليفا و وضعا. و هذا بخلاف المقام فإنّ حرمتها ليست إلّا لفساد المعاملة وضعا و كون المال مال الغير.

الثاني: أن يكون في قبال ما مرّ في باب الهدية حيث قلنا: إنّها من أقسام الهبة، و مقتضى القاعده صحّتها في جميع الشقوق، و الداعي و إن كان حراما لا يقيّد مفاد العقد، و على هذا فتحمل النواهي الواردة فيها على التكليف المحض، و هذا بخلاف المقام، إذ على فرض الاستناد إلى الآية فمقتضاها حرمة الأكل و التصرّف، و مقتضاها فساد المعاملة و عدم الانتقال إلى الشخص. هذا.

و لكنّ الظاهر أنّ نظر المصنّف إلى الوجه الأوّل لا الثاني، لما يأتي في أثناء كلامه من رجوع الهدية إلى هبة مجانيّة فاسدة، و لعلّه من جهة حمل النهي عنها في أخبار الباب على الإرشاد الى الفساد على ما هو المعروف بينهم من حمل النّواهي المتعلّقة بالعبادات أو المعاملات على الإرشاد إليه، و لكن يمكن لأحد منع الإطلاق في ذلك كما في النهي عن البيع وقت النداء فتأمّل.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 204

فلا يحرم القبض في نفسه. (1) و إنّما يحرم التصرّف، لأنّه باق على ملك الغير.

نعم يمكن أن يستدلّ على حرمته بفحوى إطلاق ما تقدّم في هديّة الولاة و العمّال. (2)

______________________________

و يمكن أن يقال: إنّ الظاهر من مجي ء العامل يوم القيامة بما أخذه هدية حاملا إيّاه على عنقه كما مرّ في خبر السّاعدي كون ما أخذه غصبا في يده و عدم كونه ملكا له، و قد حكم في الروايات

بكون الهدية للعامل غلولا و في الكتاب العزيز: وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمٰا غَلَّ يَوْمَ الْقِيٰامَةِ فيكون الإشكال في المأخوذ لا في نفس الأخذ فقط فتدبّر.

(1) في حاشية المحقّق الشيرازي: «لعلّه من غلط النسّاخ، و الظاهر: فلا يحرم العقد في نفسه لا القبض. فإنّ القبض أيضا من التصرّف الذي حكم بحرمته فالمقصود أنّ العقد ليس محرّما في نفسه يعني في ذاته بل إنّما يحرم من حيث الرشا» «1» هذا.

(2) أقول: ناقش هذا في مصباح الفقاهة فقال ما ملخّصه: «و فيه أوّلا أنّ الروايات المتقدّمة في هدية الولاة و العمّال ضعيفة السند، و ثانيا: أنّ حرمة الهدية لهما إنّما تقتضي حرمة الرشوة لهما و لا دلالة لها على حرمة الرشوة على غيرهما من الناس.» «2»

أقول: ربّما يطمئن النفس بأنّ حرمة الرشوة ليست إلّا بلحاظ كونها موجبة لتضييع الحقوق و تحريف الأنظمة الاجتماعية التي يدور عليها رحى المجتمع عن

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 75.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 272.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 205

[بذل المال على وجه الهدية الموجبة لقضاء الحاجة المباحة]

و أمّا بذل المال على وجه الهدية الموجبة لقضاء الحاجة المباحة فلا حظر فيه، كما يدلّ عليه ما ورد في أنّ الرجل يبذل الرشوة ليتحرّك من منزله ليسكنه؟ قال: «لا بأس.» (1)

و المراد: المنزل المشترك، كالمدرسة و المسجد و السّوق و نحوها.

و ممّا يدلّ على التفصيل في الرشوة بين الحاجة المحرّمة و غيرها رواية الصيرفي قال: سمعت أبا الحسن عليه السّلام و سأله حفص الأعور فقال: إنّ عمّال السلطان يشترون منّا القرب و الإداوة فيوكّلون الوكيل حتّى يستوفيه منّا فنرشوه حتى لا يظلمنا؟. فقال: «لا بأس بما تصلح به مالك» ثمّ سكت ساعة ثمّ قال: «إذا أنت رشوته يأخذ منك أقلّ

من الشرط؟» قلت: نعم، قال: «فسدت رشوتك.» (2)

______________________________

مسيرها الحقّ فيثبت الحكم أينما ثبت هذا الملاك.

(1) إشارة إلى صحيحة محمّد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن الرجل يرشو الرجل الرشوة على أن يتحوّل من منزله فيسكنه؟ قال: «لا بأس». «1»

قال في الوسائل: «الظاهر أنّ المراد المنزل المشترك بين المسلمين كالأرض المفتوحة عنوة أو الموقوفة على قبيل و هما منه.»

أقول: و يحتمل أن يراد منزل الشخص الذي سكنه الغاصب عدوانا فيعطي صاحبه الرشوة إلى الغاصب ليتحوّل منه فيسكن صاحبه. و على هذا فيجوز إعطائها للمعطي دون الآخذ و يكون استعمال لفظ الرشوة فيه على نحو الحقيقة.

(2) راجع الوسائل «2» و الراوي فيه حكيم بن حكم الصيرفي و هو مجهول.

______________________________

(1) الوسائل 12/ 207، الباب 85 من أبواب ما يكتسب به، الحديث 2.

(2) الوسائل 12/ 409، الباب 37 من أحكام العقود، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 206

..........

______________________________

و في التهذيب: «حكم بن حكيم الصيرفي قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام الحديث» «1» و ليس فيه لفظ العمّال. و حكم بن حكيم ثقة و الراوي عنه محمّد بن أبي حمزة و هو أيضا ثقة روى عنه إسماعيل بن أبي السمال أو أبي السمّاك و قالوا في حقّه: إنّه واقفي ثقة و على هذا فالسند لا بأس به. و القرب جمع قربة: سقاء يجعل فيه الماء أو اللبن، و الإداوة: إناء صغير من جلد يجعل فيه الماء و الجمع الأداوي. و ظاهر صدر الرواية جواز إعطاء الرشوة لدفع الظلم في مرحلة قبض الأمتعة المشتراة، و إن حرم أخذها على المرتشي. و لما كان يحتمل كون إعطائها لقبض الأقل من الشرط في المعاملة أيضا

أراد الإمام عليه السّلام بسؤاله و جوابه دفع توهّم الجواز حينئذ.

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 7/ 235، باب الزيادات من كتاب التجارات، الحديث 1025.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 207

[حكم المعاملة المحاباتية مع القاضي]

و ممّا يعدّ من الرشوة- أو يلحق بها- المعاملة المشتملة على المحاباة كبيعه من القاضي ما يساوي عشرة دراهم بدرهم فإن لم يقصد من المعاملة إلّا المحاباة التي في ضمنها، أو قصد المعاملة لكن جعل المحاباة لأجل الحكم له- بأن كان الحكم له من قبيل ما تواطئا عليه من الشروط غير المصرّح بها في العقد- فهي الرشوة، و إن قصد أصل المعاملة و حابى فيها لجلب قلب القاضي فهو كالهدية ملحقة بالرشوة. (1) و في

______________________________

حكم المعاملة المحاباتية مع القاضي

(1) الظاهر أنّ الفرق بين الصور الثلاث: أنّ في الأولى لم يقصد المعاملة بل إعطاء الرشوة بإزاء الحكم بنفعه، و المعاملة صوريّة محضة. و في الثانية قصد المعاملة و لكن جعل الحكم له بمنزلة الشرط في ضمن العقد، و في الثالثة قصد المعاملة و كان الداعي له جلب محبّة القاضي قلبا لعلّه ينجرّ إلى حكمه له فتكون من قبيل الهدية له.

و مقتضى القاعدة في الأولى الحرمة تكليفا و وضعا لأنّها رشوة.

و في الثانية كون الشرط فاسدا فإن قلنا بكون الشرط الفاسد مفسدا للمعاملة فسدت المعاملة أيضا. و إن قلنا بعدم إفساده لها و تقسيط المبيع بالنسبة إليه و إلى الثمن صار حكمها حكم بيع الشي ء المملوك بمملوك و غير مملوك. و إن قلنا بعدم الإفساد و عدم التقسيط أيضا كانت المعاملة صحيحة بتمامها.

و في الثالثة حكمها حكم ما مرّ في الهدية.

و لكن يظهر من المصنّف الحكم بكون المعاملة في الأوليين رشوة و لازم ذلك بطلانها فيهما.

دراسات في المكاسب

المحرمة، ج 3، ص: 208

فساد المعاملة المحابى فيها وجه قويّ. (1)

______________________________

(1) بعد ما حكم المصنّف بكون المعاملة في الصورتين الأوليين رشوة كان الظاهر رجوع هذه العبارة إلى الصورة الثالثة فقط.

قال المحقّق الشيرازي «ره» في الحاشية ما ملخّصه: «الظاهر أنّ المراد الفساد في الصورة الأخيرة، و لعلّ وجهه أنّ الرشا بالمعنى المصدري صادق على دفع المبيع الذي حابى في معاملته فيكون الدفع حراما و هو لا يجامع صحّة المعاملة لأنّ صحّتها ملازمة لوجوب دفعه المنافي لحرمة الدفع، إلّا أن يمنع صدق الرشا على الدفع فإنّ الرشا إنّما يحصل بنفس المعاملة. و الرشوة هو الملك الحاصل له بالمعاملة، و حرمة المعاملة لأجل الاتحاد مع الرشا لا يوجب فسادها و يجب الدفع بعد ذلك لوجوب الوفاء بها على تقدير صحّتها.

و أمّا الصورة الثانية فالظاهر أنّ صحّتها و فسادها ينبئ على كون الشرط الفاسد مفسدا و عدمه لأنّ مناط فساد الشرط الفاسد المذكور في العقد جار فيه و هو تقييد رضا المشترط له بالشرط الغير السالم له، اللّهم إلّا أن يدّعى الإجماع على عدم الاعتناء بالشرط الغير المذكور في العقد. و أمّا الصورة الأولى فلا إشكال في فساد المعاملة فيها لما فرض من عدم القصد فيها إلى حقيقة المعاملة فهو رشوة محضة بصورة المعاملة.» «1»

أقول: ما ذكره من أنّ حرمة المعاملة لأجل الاتحاد مع الرشا لا يوجب فسادها لا يخلو من إشكال، لما مرّ في مسألة حرمة المعاملة لانطباق عنوان الإعانة على الإثم عليها «2» من أنّ هذا إنّما يصحّ في متعلّقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين مع

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الشيرازي/ 75.

(2) راجع هذا الكتاب 2/ 375.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 209

..........

______________________________

وجود المندوحة في البين كالتصرف

في أرض الغير مع الصلاة مثلا حيث إنّ الحكمين لا يتزاحمان في مرحلة الجعل و التشريع، و إنّما يجمع بينهما العبد في مرحلة الامتثال بسوء اختياره فلا يسري حكم أحد العنوانين إلى الآخر.

و أمّا في موضوعات الأحكام و لا سيّما فيما إذا لو حظت بنحو العامّ الاستغراقي كالعقود في قوله- تعالى-: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ فهي في مرحلة الجعل و التشريع لو حظت مفروضة الوجود، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشارع المجعول على نحو القضيّة الحقيقيّة، فإذا فرض كون العقد بلحاظ وجوده الخارجي مصداقا لعنوان حرام و مبغوضا للشارع كالرشا مثلا فكيف يحكم بوجوب الوفاء به؟! و هل لا يكون هذا الحكم منه نقضا لغرض نفسه؟.

و بالجملة فصحّة المعاملة عبارة عن إمضاء الشارع لها و حكمه بوجوب الوفاء بها، و كيف يعقل إمضائه لما يكون محرّما و مبغوضا له؟!

فان قلت: بين عنوان العقد و عنوان الرشا عموم من وجه فيمكن انفكاكهما خارجا و لا يسري حكم أحدهما إلى الآخر.

قلت: الجعل في قوله أَوْفُوا بِالْعُقُودِ و إن كان جعلا واحدا و لكن مقتضى عمومه الاستغراقي تكثّر الحكم بتكثّر أفراد الموضوع فكلّ فرد من العقد بعد تحقّقه في الخارج يصير محطّا للحكم المجعول قهرا، فإذا فرض اتحاده خارجا مع عنوان محرّم مبغوض فلا محالة يكون الحكم فيه تابعا لأقوى الملاكين و يخصّص دليل الآخر.

و العمدة وجود الفرق بين متعلّقات الأحكام أعني أفعال المكلّفين و بين موضوعاتها أعني الأمور الخارجيّة التي يتعلّق بها الأفعال كالعقود في المقام المتعلّق

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 210

..........

______________________________

بها الوفاء الواجب فإنّ المتعلّق للحكم في مرحلة الجعل و التشريع نفس طبيعة الفعل لا وجوده الخارجي، بل وجوده

الخارجي مسقط للحكم، فإذا كان بين الفعلين عموم من وجه كالصلاة و التصرّف في أرض الغير مثلا لم يكن بين الحكمين تزاحم في هذه المرحلة و المكلّف يقدر على التفكيك في مرحلة الامتثال، فلا وجه لتقييد أحدهما بعدم الآخر في مرحلة الجعل و التشريع بعد عدم تقيّد الملاك فإنّه جزاف.

و أمّا الموضوع للحكم فهو عبارة عن الموجود الخارجي الذي يتعلّق به فعل المكلّف، فالملحوظ في مرحلة الجعل و إن كان هي الطبيعة لكنّها جعلت مرآتا لوجوداتها الخارجيّة، و كلّ فرد منها بعد وجوده في الخارج يصير محطّا لحكم الشرع فإذا فرض كون وجوده متحدا مع عنوان محرّم مبغوض فلا محالة يتزاحم الملاكان و يكون الحكم تابعا لأقواهما ملاكا و لازم ذلك التخصيص في دليل الآخر لبّا. و هذا نظير قوله: «أكرم العلماء» و قوله: «لا تكرم الفسّاق» حيث يتزاحم الملاكان ثبوتا فيكون الحكم في مرحلة الجعل تابعا لأقواهما و يتصرّف في دليل الآخر فتدبّر.

هذا كلّه فيما يرتبط بكلام المحقّق الشيرازي في المقام، و قد كان محصّل كلامه نحو تفصيل في الصور الثلاث كما مرّ. و مرّ منّا أيضا ما يقتضيه القاعدة فيها.

و لكن يظهر من المصنّف الحكم بالفساد في الجميع، إذ حكم في الأوليين بكونهما رشوة و قوّى الفساد في الأخيرة أيضا. و يمكن أن يوجّه كلامه بأنّ الملاك في صدق الرشوة حكم العرف لا الدقائق الفلسفيّة، و هم لا يفرّقون في ذلك بين جعل الحكم للراشي عوضا عمّا يعطى، أو شرطا في ضمن العقد، أو كان بنحو الداعي، فكلّ مال يعطى للقاضي لأن يحكم له بحيث لا يعطى لولاه فهو عندهم رشوة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 211

..........

______________________________

و في حكم البيع محاباة بيعه

بثمن المثل مع فرض قلّة المتاع و عزّته بحيث لا يباع بثمن المثل فباعه به بشرط حكمه بنفعه أو وقع بهذا الداعي.

و في حكم بذل العين بذل المنافع مجّانا كسكنى الدار و نحوها لذلك.

قال في مصباح الفقاهة: «و أمّا ما يرجع إلى الأقوال كمدح القاضي و الثناء عليه فلا يعدّ رشوة فضلا عن كونه محرّما لذلك. نعم لو كان ذلك إعانة على الظلم كان حراما من هذه الجهة.» «1»

فائدة: قال في الجواهر: «لو توقّف تحصيل الحقّ على بذله لقضاة حكّام الجور جاز للراشي و حرم على المرتشي كما صرّح به غير واحد، بل لا أجد فيه خلافا، لقصور أدلّة الحرمة عن تناول الفرض الذي تدلّ عليه أصول الشرع و قواعده المستفادة من الكتاب و السنّة و الإجماع و العقل، ضرورة أنّ للإنسان التوصّل إلى حقّه بذلك و نحوه ممّا هو محرّم عليه في الاختيار، بل ذلك كالإكراه على الرشا الذي لا بأس به على الراشي معه عقلا و نقلا.» «2»

و في مصباح الفقاهة: «الظاهر من الأخبار المتقدّمة أنّ منزلة الرشوة منزلة الرباء فكما أنّ الرباء حرام على كلّ من المعطي و الآخذ و السّاعى بينهما، فكذلك الرشوة فإنّها محرّمة على الراشي و المرتشي و الرائش أي الساعي بينهما يستزيد لهذا و يستنقص لذاك.

نعم لا بأس بإعطائها إذا كان الراشي محقّا في دعواه و لا يمكن له الوصول إلى حقّه إلّا بالرشوة كما استحسنه في المستند لمعارضة إطلاقات تحريمها مع أدلّة نفي

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 273.

(2) الجواهر 22/ 145.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 212

..........

______________________________

الضرر فيرجع إلى الأصل لو لم يرجّح الثاني، بل يتعيّن ترجيحه لحكومة أدلة نفي الضرر على أدلّة الأحكام بعناوينها الأوّليّة.»

«1»

أقول: مفاد كلام المستند تعارض الدليلين فيرجع بعد ذلك إلى أصل الجواز، و مفاد كلام مصباح الفقاهة حكومة أدلّة نفي الضرر على أدلّة الأحكام الأوّليّة، و ما ذكره صحيح بناء على كون معنى نفي الضرر نفي الجعل للحكم الضروريّ، إذ معنى حكومة الدليل الثاني على الدليل الأوّل تعرّضه لجهة من الدليل الأوّل لم يكن هو بنفسه متعرّضا له، و من ذلك حيثيّة الجعل فالأدلّة الأوّل تعرّضت لنفس الأحكام المجعولة لا لجعلها و رتبة الجعل قبل رتبة المجعول. و هذا نظير قوله- تعالى-: مٰا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ «2» و التفصيل يطلب من محلّه.

هذا.

و يستفاد الجواز في المقام من رواية الصيرفي السّابقة أيضا حيث قال السائل:

فنرشوه حتى لا يظلمنا، فقال عليه السّلام: «لا بأس بما تصلح به مالك» فراجع، «3» بل يدلّ عليه صحيحة محمّد بن مسلم السّابقة أيضا على ما احتملناه من إرادة المنزل الذي سكنه الغاصب عدوانا فيرشوه صاحبه ليتحوّل منه.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 274.

(2) سورة الحجّ (22)، الآية 78.

(3) الوسائل 12/ 409، الباب 37 من أحكام العقود، الحديث 1.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 213

[وظيفة من أخذ كلّ ما حكم بحرمة أخذه من الرشوة و غيرها]
[الحكم بوجوب الرّد]

ثمّ إنّ كلّ ما حكم بحرمة أخذه وجب على الآخذ ردّه و ردّ بدله مع التلف إذا قصد مقابلته بالحكم كالجعل و الأجرة حيث حكم بتحريمهما. و كذا الرشوة، لأنّها حقيقة جعل على الباطل، و لذا فسّره في القاموس بالجعل.

و لو لم يقصد بها المقابلة بل أعطى مجّانا، ليكون داعيا على الحكم- و هو المسمّى بالهدية- فالظاهر عدم ضمانه، لأنّ مرجعه إلى هبة مجانيّة فاسدة، إذ الداعي لا يعدّ عوضا، و «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.» (1)

______________________________

وظيفة من أخذ كلّ ما حكم بحرمة

أخذه من الرشوة و غيرها

(1) بعد النبإ على حرمة أخذ الرشوة و الأجرة و الهدية على القاضي أو غيره كان اللازم بيان وظيفة من أخذها. و الكلام تارة في الجعل و الأجرة و الرشوة و أخرى في الهدية، و ثالثة في المعاملة المحاباتية التي تكون بحكم الرشوة.

و المصنّف حكم بوجوب ردّ ما أخذه و ردّ بدله مع التلف إذا كان بنحو المقابلة و المعاوضة كما في الجعل و الأجرة و كذا الرشوة، لأنّها من قبيل الجعل أيضا، و قد ثبت في محلّه أنّ ما يضمن بصحيحه يضمن بفاسده. و استدلّوا لذلك بالإجماع، و حديث على اليد، و قاعدة الإقدام حيث إنّ الآخذ أقدم على ضمان ما أخذ و

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 214

..........

______________________________

عدم كونه مجّانا، و حكم في الهدية بعدم الضمان، لأنّ مرجعها إلى هبة مجانيّة فاسدة، و ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده، حيث إنّه لم يقدم على الضمان بل على الأخذ مجّانا، هذا ما ذكره المصنّف في المقام.

و في قضاء المستند: «فرع: يجب على المرتشي ردّها على الراشي و إن بذلها برضى نفسه مع بقاء عينها إجماعا، و الوجه فيه ظاهر، و يجب عليه ردّ عوضها مع تلفها أيضا و إن لم يكن التلف بتفريطه وجوبا فوريّا على المصرّح به في كلام الأصحاب، بل نفي الخلاف بيننا عنه. و عن ظاهر المسالك و غيره إجماعنا عليه، و هو أيضا فيما إذا بذلها من غير رضى الباذل و طيب نفسه ظاهر، و أمّا لو بذلها بطيب نفسه سيّما إذا حكم له بالحقّ فإن ثبت الإجماع على ثبوت غرامتها عليه و ضمانه إيّاها مطلقا و إلّا فللتأمّل فيه للأصل مجال واسع.»

«1»

أقول: مقتضى إطلاق «على اليد» هو الضمان مطلقا، و رضى صاحب المال لا يقتضي جواز التصرّف فيه، لأنّ رضاه كان بعنوان التمليك له رشوة بحيث يتصرّف في ملك نفسه و قد حكم الشارع بفسادها و لم يرض المالك بتصرّفه بعنوان آخر، نعم لو فرض رضاه بذلك بنحو الإطلاق و كيف ما كان حتّى مع فساد الرشوة و عدم الانتقال إليه أمكن القول بجوازه و عدم ضمانه.

______________________________

(1) مستند الشيعة 2/ 527، كتاب القضاء و الشهادة.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 215

[البحث حول حديث «على اليد»]

و كونها من السحت إنّما يدلّ على حرمة الأخذ لا على الضمان. و عموم على اليد مختصّ بغير اليد المتفرّعة على التسليط المجّاني. (1) و لذا لا يضمن بالهبة الفاسدة في غير هذا المقام.

______________________________

البحث حول حديث «على اليد»

(1) أقول: إطلاق حديث «على اليد» يقتضي الضمان مطلقا، و لكن اتفق الأصحاب على خروج اليد الأمانيّة منه، و كذا التسليط المجّاني من قبل المالك، و لكن يمكن أن يناقش ذلك بأنّ الرضى بالتصرّف في التسليط المجّاني كان في ضمن عقد الهبة فإذا فرض حكم الشارع بفساده ارتفع التسليط المذكور و لم يثبت تحقّقه حتى مع لحاظ فساد العقد.

ثمّ لا يخفى أنّ ضمان اليد ممّا يحكم به العقلاء في روابطهم الاقتصاديّة و استقرّت عليه سيرتهم إلّا في التسليط المجّاني و كذا في اليد الأمانيّة مع عدم التعدّي و عدم التفريط في حفظه.

و أمّا حديث: «على اليد ما أخذت حتّى تؤدّي» أو «حتّى تؤدّيه» المرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يثبت من طرقنا بل من طرق العامّة، و راويه عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمرة بن جندب المعلوم حاله. و

اشتهار الاستدلال به من ناحية أصحابنا في الأبواب المختلفة يحتمل أن يكون في المسائل الخلافية و من باب المماشاة معهم لا لإحرازهم صدوره أو وجود حجّة لهم على ذلك.

و الحديث رواه أبو داود في البيوع، باب التضمين في العارية؛ و الترمذي أيضا في البيوع، باب أنّ العارية مؤدّاة؛ و ابن ماجة في الصدقات، باب العارية؛ و أحمد في مسنده، فراجع «1». و الرواية في كتبهم مسندة.

______________________________

(1) راجع سنن أبي داود 2/ 265، الباب 88، الرقم 3561؛ و سنن الترمذي 2/ 368،

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 216

..........

______________________________

و بالجملة فالرواية عامّية و راويها عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمرة بن جندب فقط. و إنّما رواها أصحابنا في كتبهم الاستدلاليّة و غيرها مرسلة أخذا منهم. هذا.

و يظهر من شيخ الطائفة «ره» جواز العمل بالأخبار المرويّة من طرق العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام و الأئمّة المعصومين من ولده عليهم السّلام إذا لم يكن هنا من طرقنا أخبار تخالفها أو إجماع على خلافها. و يمكن أن يقال بوجود هذا الملاك فيما رووه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أيضا.

قال في العدّة: «و أمّا العدالة المراعاة في ترجيح أحد الخبرين على الآخر، فهو أن يكون الراوي معتقدا للحقّ، مستبصرا ثقة في دينه، متحرّجا من الكذب غير متّهم فيما يرويه.

فأمّا إذا كان مخالفا في الاعتقاد لأصل المذهب و روى مع ذلك عن الأئمّة عليهم السّلام نظر فيما يرويه.

فإن كان هناك من طرق الموثوق بهم ما يخالفه، وجب اطراح خبره.

و إن لم يكن هناك ما يوجب اطراح خبره و يكون هناك ما يوافقه وجب العمل به.

و إن لم يكن هناك من الفرقة المحقّة

خبر يوافق ذلك و لا يخالفه، و لا يعرف لهم قول فيه، وجب أيضا العمل به، لما روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «إذا أنزلت بكم حادثة لا تجدون حكمها فيما روي عنّا فانظروا إلى ما رووه عن عليّ عليه السّلام فاعملوا به.»

و لأجل ما قلناه عملت الطائفة بما رواه حفص بن غياث و غياث بن كلّوب و

______________________________

- الباب 39، الرقم 1266؛ و سنن ابن ماجة 2/ 802، الباب 5 من كتاب الصدقات؛ و مسند أحمد، 5/ 8 و 13.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 217

..........

______________________________

نوح بن درّاج و السّكوني و غيرهم من العامّة عن أئمّتنا عليهم السّلام فيما لم ينكروه و لم يكن عندهم خلافه.» «1»

أقول: لا يخفى أنّ نوح بن درّاج، أخا جميل بن درّاج كان من الشيعة- على ما قالوا- و لكنّه كان يخفى أمره لكونه قاضيا من قبل الخلفاء. و الظاهر أنّ عمل الأصحاب بأخبار هؤلاء المذكورين كان من جهة الوثوق بصدقهم و إن كانوا من أهل الخلاف.

و لكن سمرة- مضافا إلى فسقه و عداوته لعلىّ عليه السّلام و أهل بيته- كان ممّن يضع الحديث أيضا فقد روى ابن أبي الحديد عن أبي جعفر الإسكافي ما ملخّصه:

«إنّ معاوية بذل لسمرة بن جندب مأئة ألف درهم على أن يروي أنّ قوله تعالى: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيٰاةِ الدُّنْيٰا وَ يُشْهِدُ اللّٰهَ عَلىٰ مٰا فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصٰامِ. «2» نزل في عليّ عليه السّلام و أنّ قوله تعالى: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغٰاءَ مَرْضٰاتِ اللّٰهِ «3» نزل في ابن الملجم الملعون فلم يقبل منه، فبذل مأتي ألف فلم يقبل، فبذل ثلاثة مأئة

ألف فلم يقبل، فبذل له أربعمائة ألف درهم فقبل.» «4»

و قتل سمرة ثمانية آلاف رجل من الشيعة في البصرة حين إمارته عليها من قبل زياد في ستّة أشهر.

و سمرة هذا هو الذي كان له عذق في حائط رجل من الأنصار و كان يدخل

______________________________

(1) العدة 1/ 379، في التعادل و التراجيح.

(2) سورة البقرة (2)، الآية 204.

(3) سورة البقرة (2)، الآية 207.

(4) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4/ 73.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 218

[القول باحتمال عدم الضمان في الرشوة مطلقا]

و في كلام بعض المعاصرين: أنّ احتمال عدم الضمان في الرشوة مطلقا غير بعيد معلّلا بتسليط المالك عليها مجّانا. قال: و لأنّها تشبه المعاوضة و «ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.» (1)

______________________________

بلا استيذان فشكاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاستدعى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منه أن يستأذن فأبى، فقال له: «خلّ عنه و لك مكانه عذق في مكان كذا» فأبى حتى بلغ عشرة أعذاق فأبى فقال له: «خلّ عنه و لك عذق في الجنّة» فأبى، فقال له النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّك رجل مضارّ و لا ضرر و لا ضرار» ثمّ أمر بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلعت. «1»

و بالجملة فالاعتماد على رواية سمرة مشكل، و قد مرّ أنّ استدلال الأصحاب بها في كتبهم لعلّه كان من باب المماشاة و لا سيّما في المسائل الخلافية مع العامّة.

فما في العوائد من: «أنّ اشتهارها بين الأصحاب و تداولها في كتبهم و تلقيهم لها بالقبول و استدلالهم بها في موارد عديدة يجبر ضعفها» «2» قابل للمناقشة.

و أمّا دلالتها على الضمان فالظاهر عدم الإشكال

فيها، إذ ثبوت مال الغير على اليد تشريعا بنحو الإطلاق ظاهر في ضمانه و كونه على عهدته فيترتّب جميع الآثار: منها وجوب حفظه، و منها وجوب ردّه بنفسه أو ببدله و لا وجه للتخصيص ببعضها. و التحقيق موكول إلى محلّه فتدبّر.

و كيف كان فالعمدة في ضمان اليد بناء العقلاء و استقرار سيرتهم على ذلك، و على ذلك يدور رحى الاجتماع في جميع الأمم.

(1) أقول: لم يظهر لنا المقصود من بعض معاصريه. نعم في الجواهر قال:

«نعم قد يشكل الرجوع بها مع تلفها و علم الدافع بالحرمة باعتبار تسليطه.» «3»

______________________________

(1) راجع تنقيح المقال 2/ 68.

(2) العوائد/ 109، العائدة 33.

(3) الجواهر 22/ 149.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 219

و لا يخفى ما بين تعليليه من التنافي، لأنّ شبهها بالمعاوضة يستلزم الضمان، لأنّ المعاوضة الصحيحة توجب ضمان كلّ منهما ما وصل إليه بعوضه الذي دفعه، فيكون مع الفساد مضمونا بعوضه الواقعي و هو المثل أو القيمة. و ليس في المعاوضات ما لا يضمن بالعوض بصحيحه

______________________________

و لكن هذا غير ما حكاه المصنّف.

و استشكل المصنّف على معاصره بتنافي التعليلين في كلامه، إذ مقتضى التسليط المجّاني عدم الضمان و مقتضى الشباهة بالمعاوضة هو الضمان. و ليس في المعاوضات ما لا يضمن بالعوض. هذا مضافا إلى أنّ التسليط في الرشوة ليس مجانا بل بإزاء الحكم بنفع الراشي.

و في حاشية الإيرواني في توجيه كلام المعاصر المذكور قال: «الظاهر أنّه أراد بالمعاوضة العقد المشتمل على الإيجاب و القبول دون المعاوضة المشتملة على العوضين من الجانبين، فيسلم عن اعتراض المصنّف، و يشهده أنّه ذكر هذا الكلام توطئة لأجل أن يتمسّك بقاعدة ما لا يضمن، فإنّ عنوان هذه القاعدة و موضوعه هو العقد دون المعاوضة، نعم

مبنى كلامه على أن لا تكون الرشوة مختصّة بما كان بإزاء الحكم بل كانت عامّة لما كان بداعي الحكم فالرشوة في كلامه هي عين الهبة في كلام المصنّف.» «1»

أقول: إرادة مطلق العقد بلفظ المعاوضة بعيد في الغاية، كما أنّ حمل لفظ الرشوة على خصوص ما لم يكن بإزاء الحكم أيضا بعيد.

و يحتمل أن يرجع كلام المعاصر المذكور إلى تعليل واحد، لعدم الضمان و هو أنّ المتحقّق في الرشوة حقيقة هو التسليط المجّاني، و ليست هي معاوضة حتّى

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 220

حتّى لا يضمن بفاسده.

نعم قد يتحقّق عدم الضمان في بعض المعاوضات بالنسبة إلى غير العوض، كما أنّ العين المستأجرة غير مضمونة في يد المستأجر بالإجارة، فربّما يدّعى أنّها غير مضمونة إذا قبض بالإجارة الفاسدة. لكن هذا كلام آخر (1) و الكلام فعلا في ضمان العوض بالمعاوضة الفاسدة.

و التحقيق أنّ كونها معاوضة أو شبيهة بها وجه لضمان العوض فيها، لا لعدم الضمان.

______________________________

يترتّب الضمان بل هي شبيهة بالمعاوضة و لا يجري في مشابه الشي ء حكم نفس الشي ء.

(1) أقول: في هامش بعض نسخ المكاسب هكذا: «قد ثبت فساده بما ذكرناه في باب الغصب من أنّ المراد من: «ما لا يضمن بصحيحه» أن يكون عدم الضمان مستندا إلى نفس العقد الصحيح، لمكان الباء، و عدم ضمان العين المستأجرة ليس مستندا إلى الإجارة الصحيحة، بل إلى قاعدة الأمانة المالكيّة و الشرعيّة، لكون التصرّف في العين مقدّمة لاستيفاء المنفعة مأذونا فيه شرعا، فلا يترتّب عليه الضمان، بخلاف الإجارة الفاسدة فإنّ الإذن الشرعي فيها مفقود، و الإذن المالكي غير مثمر، لكونه تبعيّا، و لكونه لمصلحة القابض فتأمّل.» هذا.

و قد تحصّل ممّا ذكرنا أنّ

فيما تحقّقت المقابلة و المعاوضة كالجعل و الأجرة و كذا الرشوة الواقعة بإزاء الحكم يثبت الضمان. و في مثل الهدية لا يكون ضمان.

بقي الكلام في المعاملة المحاباتيّة بالنسبة إلى ما نقص من القيمة فنقول: قد مرّ

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 221

..........

______________________________

أنّ فيها ثلاث صور: ففي الاولى منها يثبت الضمان، لوقوع ما نقص بإزاء الحكم له، و في الثالثة لا ضمان، لأنها بمنزلة الهدية. و أمّا الثانية ففي مصباح الفقاهة عدم الضمان فيها أيضا. و محصّل ما ذكره: «أنّ غاية الأمر أنّ المعاملة كانت مشروطة بالشرط الفاسد، و قد عرفت أنّ الشرط لا يقابل بجزء من الثمن و أن الفاسد منه لا يوجب فساد المعاملة و إنّما يوجب الخيار فقط للمشروط له.» «1»

أقول: و أمّا على ما ذكره المصنّف سابقا من عدّ ذلك أيضا من الرشوة فمقتضاه الضمان، إذ ظاهر أدلّة حرمة الرشوة هو الحرمة و الفساد معا، و المفروض عدم كونها مجّانا، بل بإزاء الحكم له فيثبت الضمان فتأمّل.

هذا كلّه بالنسبة إلى مقدار النقص، و أمّا بالنسبة إلى ما بإزاء الثمن فالضمان ممّا لا إشكال فيه، لكونه معاوضة و عدم كونه مجّانا.

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 275.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 222

[فروع في اختلاف الدافع و القابض]
اشارة

فروع في اختلاف الدافع و القابض لو ادّعى الدافع أنّها هدية ملحقة بالرشوة في الفساد و الحرمة، و ادّعى القابض أنّها هبة صحيحة لداعي القربة أو غيرها (1) احتمل تقديم

______________________________

ثلاثة فروع في اختلاف الدافع و القابض

(1) لا يخفى أنّ لاختلاف الدافع و القابض صورا مختلفة، و المصنّف تعرّض لثلاث صور:

[الفرع الأوّل يتّفقا على عنوان واحد اختلفا في كونه صحيحا أو فاسدا]

الأولى: أن يتّفقا على عنوان واحد كالهبة مثلا و اختلفا في كونه صحيحا أو فاسدا فادّعى الدافع أنّها هدية ملحقة بالرشوة في الفساد و الحرمة، و ادّعى القابض أنّها هبة صحيحة لازمة، مثل أن تكون بداعي القربة أو يكون القاضي رحما له. و لا يخفى اشتراك الأمرين في عدم الضمان مع التلف، لما مرّ من أنّ مالا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و إنّما يظهر أثر اختلافهما في جواز استرجاع العين و عدمه، فما يظهر من المصنّف هنا من تحقّق الضمان على فرض الفساد إذا كانت الدعوى بعد التلف مخالف لما مرّ منه من عدم الضمان في الهبة المجّانية الفاسدة. هذا.

و معنى ضمان العين كونها في عهدة الضامن، و مقتضاها وجوب حفظها و ردّها إلى صاحبها مع الإمكان و ردّ مثلها أو قيمتها مع الحيلولة أو التلف فهذه أحكام الضمان و العهدة عند العقلاء، و اعتبار العهدة عندهم مغاير لاشتغال الذمّة، إذ العين مع وجودها لا تنتقل إلى الذمّة مع فرض تحقّق الضمان بالنسبة إليها.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 223

الأوّل، لأنّ الدافع أعرف بنيّته (1) و لأصالة الضمان في اليد إذا كانت الدعوى بعد التلف.

و الأقوى تقديم الثاني، لأنّه يدّعي الصحّة. (2)

______________________________

(1) قال المحقّق الإيرواني: «إشارة إلى أنّ المدّعي إذا ادّعى ما لا يعلم إلّا من قبله قدّم قوله. و هو غير مرضيّ عند

المصنّف، و قد صرّح في الخيارات بعدم نهوض الدليل على ذلك عموما و إنّما ثبت في موارد خاصّة كإخبار المرأة عن الحمل و الحيض و الطّهر، و ذلك لا يوجب قياس باقي الموارد عليه بعد عدم العلم بالمناط. بل لو صحّ ذلك لزم سماع مدّعي الاجتهاد و الأعلميّة و العدالة، إلّا أن يمنع كون ذلك ممّا لا يعرف إلّا من قبله فإنّ كلّ ذلك يعرف بآثارها.» «1»

أقول: الظاهر أنّ الأخذ بقول المدّعي فيما لا يعرف إلّا من قبله أمر عقلائي استقرّ عليه سيرتهم، و إلغاء الخصوصيّة من الموارد المذكورة غير بعيد.

نعم الظاهر اختصاص ذلك عندهم بصورة عدم كون المدّعي ممّن يتّهم بالكذب و الخلاف في أقواله و أفعاله.

(2) قد تقرّر في محلّه أنّ من طرق تشخيص المنكر في المرافعات كون الشخص ممّن يطابق قوله للأصل فيقدّم قوله بعد حلفه مع فرض عدم البيّنة لصاحبه. هذا.

و في مصباح الفقاهة: «و قد يقال هنا بالضمان، لعموم قاعدة اليد، لأنّ وضع القابض يده على مال الدافع محرز بالوجدان، و عدم كونه بالهبة الصحيحة الناقلة محرز بالأصل فيلتئم الموضوع منهما و يترتّب عليه الحكم بالضمان. و لا يعارض ذلك الأصل بأصالة عدم الهبة الفاسدة، لأنّها لا أثر لها.» «2»

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني/ 27.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 276.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 224

و لو ادّعى الدافع أنّها رشوة أو أجرة على المحرّم، و ادّعى القابض كونها هبة صحيحة (1) احتمل أنّه كذلك، لأنّ الأمر يدور بين الهبة الصحيحة و الإجارة الفاسدة.

و يحتمل العدم، إذ لا عقد مشترك هنا اختلفا في صحّته و فساده، فالدافع منكر لأصل العقد الذي يدّعيه القابض لا لصحّته فيحلف على عدم وقوعه. و

ليس هذا من مورد التداعي كما لا يخفى. (2)

______________________________

أقول: المفروض في الصورة الأولى- كما عرفت- توافقهما على وقوع الهبة المجّانيّة و إنّما اختلفا في صحّتها أو فسادها فلا وجه فيها للضمان، أمّا مع الصحّة فواضح، و أمّا مع الفساد، فلما ثبت من أنّ ما لا يضمن بصحيحه لا يضمن بفاسده.

و بالجملة فعدم الضمان في المقام ممّا يقطع به و إنّما يثمر النزاع- كما مرّ- بالنسبة إلى جواز استرجاع العين و عدمه مع وجودها.

[الفرع الثاني ادّعى الدافع أنّها رشوة أو أجرة على المحرّم، و ادّعى القابض كونها هبة صحيحة]

(1) هذه هي الصورة الثانية من صور الاختلاف، و المصنّف احتمل فيها تقديم قول من يدّعي الصحّة. ثمّ قال: «و يحتمل العدم، إذ لا عقد مشترك هنا.»

أقول: الظاهر أنّه لا يشترط في جريان أصل الصحّة وجود عقد مشترك بينهما، نعم لا يثبت بهذا الأصل كون الواقع هبة صحيحة حتّى يترتّب عليها عدم الضمان، و على هذا فمقتضى عموم «على اليد» بضميمة أصالة عدم التسليط المجّاني هو الحكم بالضمان. إلّا أن يقال- كما قيل-: إنّ شمول العامّ للمقام يتوقّف على إحراز وقوع اليد على مال الغير. و استصحاب بقاء المال على ملك مالكه لا يثبت حال اليد الخارجيّة و أنّها وقعت على مال الغير غير مجّان حتّى يحكم بالضمان.

(2) في حاشية المحقّق الإيرواني: «لعدم معارضة هذا الأصل بأصالة عدم

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 225

و لو ادّعى الدافع أنّها رشوة، و القابض أنّها هدية فاسدة لدفع الغرم عن نفسه- بناء على ما سبق من أنّ الهدية المحرّمة لا توجب الضمان- (1)

ففي تقديم الأوّل، لأصالة الضمان في اليد، أو الآخر، لأصالة عدم سبب الضمان و منع أصالة الضمان؟ و جهان، أقواهما الأوّل. (2)

______________________________

العقد الذي يدّعيه الدافع، لأنّ الضمان لا يترتّب على

وجود ذلك العقد كي يرتفع بعدمه، بل يترتّب على اليد. نعم خرج من عموم «على اليد» يد كانت بتسليط المالك مجّانا، و الأصل عدم هذا التسليط، لكن تقدّم ما في هذا الأصل فراجع.» «1»

أقول: أراد بذلك أنّ أصالة عدم التسليط المجّاني لا تثبت حال اليد الخارجيّة و أنّها وقعت على مال الغير غير مجّان فالتمسّك فيه بعموم «على اليد» تمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقيّة للمخصّص فيشكل الحكم بالضمان فتأمّل.

[الفرع الثالث اتفقا على فساد العقد غير أنّ الدافع ادّعى ما يوجب فاسده الضمان]

(1) هذه هي الصورة الثالثة من صور الاختلاف في المقام اتفقا فيها على فساد العقد غير أنّ الدافع ادّعى ما يوجب فاسده الضمان كالرشوة أو الأجرة الفاسدة مثلا، و الآخذ ادّعى ما لا يوجبه كالهدية الفاسدة بناء على عدم الضمان فيها، لعدم الضمان في صحيحها.

و لا يخفى أنّ ثمرة النزاع تظهر بعد تلف المال، إذ قبله يجوز للدافع استرجاع العين كما يجب على الآخذ ردّها لاتفاقهما على فساد المعاملة.

(2) قد قوّى المصنّف في هذه الصورة الضمان، لعموم خبر «على اليد» بضميمة أصالة عدم التسليط المجّاني فيتحقّق موضوعه. و يكون هذا حاكما على

______________________________

(1) حاشية المكاسب للمحقّق الإيرواني 27.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 226

لأنّ عموم خبر «على اليد» يقضي بالضمان إلّا مع تسليط المالك مجّانا، و الأصل عدم تحقّقه، و هذا حاكم على أصالة عدم سبب الضمان فافهم.

______________________________

أصالة عدم سبب الضمان، بل واردا عليها ورود الدليل الاجتهادي على الأصل العملي. هذا.

و لكن في حاشية المحقّق الإيرواني: «بل الأقوى الثاني حذو ما تقدّم في الفرعين، لأنّ أصالة عدم التسليط مجّانا لا تثبت أنّ اليد الخارجيّة ليست يدا مجّانيّة، كما أنّ أصالة عدم وجود الهاشمي في الدار و الكرّ في الإناء لا تثبت كون المولود غير هاشمي

و الماء الموجود غير كرّ، فإذا لم يثبت السلب الناقص بالأصل الجاري في السلب التامّ لم يسع التمسّك بعموم «على اليد» فيرجع إلى استصحاب براءة الذمّة من البدل بعد التلف.» «1»

أقول: محصّل ما ذكره أنّ إثبات السلب الناقص باستصحاب السلب التامّ من الأصول المثبتة و نحن لا نقول بها. و نفس السلب الناقص أعني عدم كون هذا التسليط الخارجي بنحو المجّان ليس له حالة سابقة، إذ من بدو وجوده وجد إمّا مجّانا أو بنحو المعاوضة، اللّهم إلّا على القول بصحّة استصحاب العدم الأزلي في السلب الناقص و لكن نحن منعنا ذلك، لعدم عرفيّته.

و لكن في مصباح الفقاهة سلك في المقام مسلكا آخر فقال في مقام الردّ على المصنّف ما ملخّصه: «يرد عليه أنّ خبر «على اليد» ضعيف السند و غير منجبر بشي ء فلا يجوز الاستناد إليه.

و التحقيق أنّه ثبت في الشريعة المقدّسة عدم جواز التصرّف في مال المسلم إلّا بطيب نفسه، و ثبت فيها أيضا أنّ وضع اليد على مال الغير بدون رضى مالكه موجب للضمان للسيرة القطعيّة، و من الواضح أنّ وضع اليد على مال الغير في

______________________________

(1) نفس المصدر.

دراسات في المكاسب المحرمة، ج 3، ص: 227

..........

______________________________

المقام محرز بالوجدان، فإذا ضممنا إليه أصالة عدم رضى المالك بالتصرّف المجّاني تألّف الموضوع من الوجدان و الأصل و حكم بالضمان، و ليس المراد من الأصل المذكور استصحاب العدم الأزلي بل المراد به استصحاب العدم المحمولي و هو واضح، و إن قلنا بحجّية الأوّل أيضا.» «1»

أقول: المصطلح عليه في العدم المحمولي السلب التامّ أعني سلب الشي ء في قبال السلب الناقص أعني سلب شي ء عن شي ء و الظاهر أنّه «ره» لم يرد بها في المقام ذلك، بل أراد به

السلب الناقص بانتفاء المحمول في قبال السلب بانتفاء الموضوع المستعمل في استصحاب الأعدام الأزليّة. فأراد أنّ هذا الشي ء كان للغير سابقا بنحو القطع و أنّه لم يكن في السابق موردا لرضاه في التصرّف فيه فيستصحب هذا السلب فتدبّر. هذا.

و قد ذكر في مصباح الفقاهة في المقام صورة رابعة للاختلاف لا ترتبط بمسألة الرشوة قال: «الصورة الرابعة: أن يدّعي كلّ منهما عنوانا صحيحا غير ما يدّعيه الآخر، كأن يدّعي الباذل كونه بيعا ليتحقّق فيه الضمان، و يدّعي القابض كونه هبة مجّانيّة لكي لا يتحقّق فيه الضمان، فإن أقام أحدهما بيّنة أو حلف مع نكول الآخر حكم له، و إلّا وجب التحالف و ينفسخ العقد، و عليه فيجب على القابض ردّ العين مع البقاء أو بدلها مع التلف و هذه الصورة لا تنطبق على ما نحن فيه.» «2»

أقول: و يظهر وجه ما ذكره ممّا مرّ منه في الصورة الثالثة.

8 شعبان 1418 ه. ق- المطابق ل- 18/ 9/ 1376 ه. ش

______________________________

(1) مصباح الفقاهة 1/ 276.

(2) مصباح الفقاهة 1/ 277.

________________________________________

نجف آبادى، حسين على منتظرى، دراسات في المكاسب المحرمة، 3 جلد، نشر تفكر، قم - ايران، اول، 1415 ه ق

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.